سيظل الصراع محتدما بين الموروث القديم ومحاولات التجديد. والكل يقدم أدلته وبراهينه على صحة مذهبه ومن المعروف أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، ولكن البعض عندما يضفي مسحة من "القداسة" على مذهبه ويهيل التراب على آراء المخالفين، هنا تكون الكارثة، فالكل يؤخذ منه ويُرد إلا صاحب هذا المقام، وهو رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم.
والكتاب الذي بين أيدينا صورة واضحة لهذا الصراع الأبدي بين القديم والجديد، صدر هذا الكتاب في طبعتين. طبعة أولى غير كاملة عن دار "ناشرون" في القاهرة وبيروت آخر يونيو 2020، وطبعة ثانية كاملة عن دار "حابى للنشر والتوزيع" صدرت هذا الشهر، يونيو 2021.
يحكي الكتاب قصة القارئ الشيخ عنتر مسلم، التي دارت فصولها الغربية والمثيرة في الثمانينات من القرن العشرين، حين أصدر الأزهر قرارا بمنع تداول أشرطته بتهمة أنه يقرأ القرآن الكريم بقراءات غير معترف بها من المقارئ المصرية. ويستعرض سيرة الشيخ الذي كانت إذاعات العالم الإسلامي كلها تقريبا تبث تسجيلاته، بينما كانت أشرطته ممنوعة من التداول في مصر بناءً على حملة ضارية ضد الشيخ أدارتها بعض الوسائل الصحفية والإعلامية.
ويوضح الكاتب أن الشيخ كان يقرأ بطريقة جديدة من نوعها لم تكن معروفة في دولة التلاوة، لأنه كان يتلو القران الكريم بأكثر من أربع قراءات مختلفة في الربع الواحد. واعتُبرت تلك الطريقة عند قراء الإذاعة آنذاك نوعا من الهرطقة الخارقة للقواعد الصارمة التي لا مجال للاجتهاد فيها.
وشنت جهات رسمية، دينية وإعلامية، على الشيخ آنذاك حربا ضروسا امتدت ساحاتها بطول محافظات مصر. وكان أن صدر قرار الأزهر إثر هذه الحملة الضارية، وقضى القرار حظر طبع وتوزيع أشرطته حيث كانت شرائط الكاسيت هي النافذة الوحيدة المفتوحة خارج سيطرة الإعلام الحكومي الرسمي
ويُعد الكتاب بمثابة سيرة فنية لحياة ذلك الشيخ، الذي رفض أن يخرج من بلدته الصغيرة بمركز قطور التابع لمحافظة الغربية في مصر، كما رفض الذهاب إلى القاهرة، مركز الشهرة والنور لأي متطلع للشهرة والانطلاق، بل إنه رفض دعوة من الزعيم الليبي معمر القذافي بمنحه الجنسية الليبية، مع وتحديد المبلغ الذي يريده!
وقد واجه المؤلف طايع الديب، الصحفي والكاتب المعروف، صعوبات لا تقل عن تلك الصعوبات التي واجهها الشيخ عنتر، فقد رفضت العديد من دور النشر طبع الكتاب حتى تتجنب الصدام مع الأزهر الشريف. وكذلك بعض البرامج التي دعت الكاتب للحديث عن كتابه، ونوهت عن ذلك، إلا أنها اعتذرت عن تقديم الحلقة التى كان مقررا أن يتحدث فيها الكاتب، تجنبا أيضا لحدوث صدام بينها وبين الأزهر!
وحتى عند كتابة هذا الكتاب واجه المؤلف صعوبات بالغة في جمع المادة التى يحتاجها، فلم تتوفر تلك المادة بسهولة، فقد تم تجاهل الشيخ عنتر مسلم تماما عند التأريخ لدولة التلاوة فى مصر والعالم العربي، فلم يذكره أحد سوى الكاتب الصحفي محمود السعدني فى كتابه "ألحان السماء".
ورأى المؤلف أن الشيخ عنتر كان قارئا مثيرا للجدل، كأي شخصية أخرى، وكان له معارضون ومؤيدون. وعلى الرغم من اختفاء الشيخ ومنع تداول شرائطه فى مصر، فإن شرائطه كانت تباع على أسوار "المسجد الأزرق" في مزار شريف (أفغانستان) وتنطلق من محلات بيع الكاسيت فى لاهور باكستان، وتسمع فى حضرات الطريقة النقشبندية "بإسطنبول" في تركيا، بينما هو ممنوع فى بلده مصر!
بل إن هناك جامعات تقوم بدراسة هذه الطريقة، ومنها كلية "دارتموث" الأمريكية، حيث سيصدر كتاب للباحث أندرو سايمون، يتناول فيه تاريخ مصر الثقافي خلال الخمسين عاما الأخيرة. ويتضمن الكتاب فصلا كاملا حول الشيخ عنتر مسلم.
ويعتبر المؤلف أن قصة الشيخ عنتر، القارئ الذي غرّد خارج السرب، إنما مثال دال على مدى انخفاض "سقف الإبداع" في العالم العربي، وعلى المآل البائس لأي شخص يجرؤ على تحدى المسلمات الموروثة في أى مجال، حتى ولو كانت هذه المسلمات خاطئة!