القرامطة في مكة..وسرقة الحجر الأسود
قال ابن الجوزي في حوادث سنة ثلاثمائة وسبع عشرة: ([1])
« وفيها بذرق الحاج (أي: قاد الحاج) منصور الديلمي وسلموا في طريقهم، فلما وصلوا إلى مكة وافاهم أبو طاهر الهجري إلى مكة يوم التروية، فقتل الحجاج في المسجد الحرام، وفي فجاج مكة، وقتلهم في البيت قتلاً ذريعًا، وكان الناس في الطواف وهم يقتلون، وكان في الجماعة علي بن بابويه يطوف، فلما قطع الطواف ضربوه بالسيوف، فلما وقع أنشد:
تَرَى المُحِبِّينَ صَرْعَى فِي دِيَارِهِمُ *** كَفِتْيَةِ الكَهْفِ لاَ يَدْرُونَ كَمْ لَبِثُوا
واقتلع الهجري الحجر الأسود، وقلع قبة بئر زمزم، وعرى الكعبة، وقلع باب البيت، وأصعد رجلاً من أصحابه؛ ليقلع الميزاب، فتردى الرجل على رأسه ومات، وقتل أمير مكة، وأخذ أموال الناس، وطرح القتلى في بئر زمزم، ودفن باقيهم في مصارعهم وفي المسجد الحرام من غير أن يصلى عليهم، وانصرف إلى بلده، وحمل معه الحجر الأسود، فبقي عندهم أكثر من عشرين سنة إلى أن ردوه».
ثم روى ابن الجوزي بسنده إلى أبي الحسين عبدالله بن أحمد بن عياش القاضي، قال: «أخبرني بعض أصحابنا: أنه كان بمكة في الوقت الذي دخلها أبو طاهر القرمطي ونهبها وسلب البيت وقلع الحجر الأسود والباب، وقتل المسلمين في الطواف، وفي المسجد، وعمل تلك الأعمال العظيمة، قال: فرأيت رجلاً قد صعد البيت؛ ليقلع الميزاب، فلما صار عليه سقط، فاندقت عنقه، فقال القرمطي: لا يصعد إليه أحد ودعوه، فترك الميزاب، ولم يقلع، ثم سكنت الثائرة بعد يوم أو يومين، قال: فكنت أطوف بالبيت فإذا بقرمطي سكران، وقد دخل المسجد بفرسه، فصفر له حتى بال في الطواف، وجرد سيفه ليضرب به من لحق وكنتُ قريبًا منه، فعدوت، فلحق رجلاً كان إلى جنبي فضربه فقتله، ثم وقف وصاح: يا حمير، أليس قلتم في هذا البيت من دخله كان آمنًا، وقد قتلته الساعة بحضرتكم؟».
قال: « فخشيت من الرد عليه أن يقتلني، ثم طلبت الشهادة، فجئت حتى لصقت به، وقبضت على لجامه، وجعلت ظهري مع ركبتيه؛ لئلا يتمكَّن من ضربي بالسيف، ثم قلت: اسمع، قال: قل، قلتُ: إنَّ الله عز وجل لم يردْ أن من دخله كان آمنًا، إنما أراد مَن دخله فأمنوه، وتوقعت أن يقتلني، فلوى رأس فرسه، وخرج من المسجد، وما كلمني».
وقال ابن الأثير في حوادث سنة سبع عشرة وثلاثمائة:([2])
« ذكر مسير القرامطة إلى مكة، وما فعلوه بأهلها وبالحجاج، وأخذهم الحجر الأسود:
حج بالناس في هذه السنة (317هـ) منصور الديلمي، وسار بهم من بغداد إلى مكة، فسلموا في الطريق، فوافاهم أبو طاهر القرمطي بمكة يوم التروية، فنهب هو وأصحابه أموال الحجاج وقتلوهم حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه، وقلع الحجر الأسود، ونفذه إلى هجر، فخرج إليه ابن محلب أمير مكة في جماعة من الأشراف، فسألوه في أموالهم، فلم يشفعهم فقاتلوه فقتلهم أجمعين، وقلع باب البيت، وأصعد رجلاً ليقلع الميزاب، فسقط فمات، وطرح القتلى في بئر زمزم، ودفن الباقين في المسجد الحرام، حيث قتلوا بغير كفن ولا غُسل، ولا صلى على أحد منهم، وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه، ونهب دور أهل مكة، فلما بلغ ذلك المهدي أبا محمد عبيد الله العلوي بإفريقية، كتب إليه ينكر عليه ذلك، ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة، ويقول: قد حققت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلته، وإن لم ترد على أهل مكة وعلى الحجاج ما أخذتَ منهم وترد الحجر الأسود إلى مكة، فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة، فلما وصله هذا الكتاب أعاد الحجر الأسود - على ما سنذكره - واستعاد ما أمكنه من الأموال من أهل مكة فرده، وقال: إن الناس اقتسموا كسوة الكعبة وأموال الحجاج ولا أقدر على منعهم».
قال ابن جرير في حوادث سنة 316هـ:([3])
«ذكر الحوادث التي أحدثها القرامطة بمكة وغيرها:
وفي هذه السنة سار الجنابي القرمطي لعنه الله إلى مكة، فدخلها وأوقع بأهلها عند اجتماع الموسم وإهلال الناس بالحج، فقتل المسلمين بالمسجد الحرام، وهم متعلقون بأستار الكعبة، واقتلع الحجر وذهب به، واقتلع أبواب الكعبة وجرَّدها من كسوتها، وأخذ جميع ما كان فيها من آثار الخلفاء التي زينوا بها الكعبة، وذهبوا بدرة اليتيم، وكانت تزن فيما ذكر أهل مكة أربعة عشر مثقالاً، وبقرطي مارية، وقرن كبش إبراهيم، وعصا موسى، ملبسين بالذهب، مرصعين بالجوهر، وطبق ومكبة من ذهب، وسبعة عشر قنديلاً كانت بها من فضة، وثلاثة محاريب فضة، كانت دون القامة منصوبة في صدر البيت، ثم رد الحجر بعد أعوام، ولم يرد من سائر ذلك شيء.
وقيل: إن الجنابي لعنه الله صعد إلى سطح الكعبة؛ ليقلع الميزاب، وهو من خشب ملبس بذهب، فرماه بنو هذيل الأعراب من جبل أبي قبيس بالسهام، حتى أزالوهم عنه، ولم يصلوا إلى قلعه».
قال ابن كثير في حوادث سنة 317هـ، ذِكْر أخْذ القرامطة الحجر الأسود إلى بلادهم: [4]
« فيها خرج ركب العراق، وأميرهم منصور الديلمي، فوَصَلُوا إلى مكة سالمين، وتوالت الركوب هناك من كل مكان وجانب، فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم، واستباح قتالهم، فقَتَلَ في رحاب مكة وشعابها، وفي المسجد الحرام، وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقًا كثيرًا، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة، والرجال تُصْرَع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول:
أَنَا اللهُ وَبِاللهِ أَنَا *** يَخْلُقُ الخَلْقَ وَأُفْنِيهِمْ أَنَا
فكان الناس يفرون منه، فيتعلقون بأستار الكعبة، فلا يجدي ذلك عنهم شيئًا، بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيُقتلون في الطواف، وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف، فلما قضى طوافه أخذته السيوف، فلما وجب أنشد وهو كذلك:
تَرَى المُحِبِّينَ صَرْعَى فِي دِيَارِهِم *** كَفِتْيَةِ الكَهْفِ لاَ يَدْرُونَ كَمْ لَبِثُوا
فلما قضى القرمطي لعنه الله أمره، وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودَفَنَ كثيرًا منهم في أماكنهم من الحرم، وفي المسجد الحرام، ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، ومع هذا لم يُغَسَّلُوا، ولم يكفنوا، لأنهم محرمون شُهداء في نفْس الأمر.
وهدم قبة زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها منها، وشققها بين أصحابه، وأمر رجلاً أن يصعد إلى ميزاب الكعبة، فيقتلعه فسقط على أم رأسه فمات إلى النار، فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب، ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود، فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده، وقال: أين الطير الأبابيل ترميهم بالحجارة من سجيل؟ ثم قلع الحجر الأسود، وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم اثنتين وعشرين سنة، حتى ردوه كما سنذكره في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فإنا لله، وإنا إليه راجعون!
ولما رجع القرمطي إلى بلاده ومعه الحجر الأسود، وتبعه أمير مكة هو وأهل بيته وجنده، وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود؛ ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الأموال، فلم يلتفت إليه، فقاتله أمير مكة فقتله القرمطي، وقتل أكثر أهل بيته وأهل مكة وجنده، واستمر ذاهبًا إلى بلاده ومعه الحجر وأموال الحجيج.
وقد ألحد هذا اللعين في المسجد الحرام إلحادًا لم يسبقْه إليه أحد، ولا يلحقه فيه، وسيجازيه على ذلك الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد.
وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنيع أنهم كفار زنادقة، وقد كانوا ممالئين للفاطميين الذين نبغوا في هذه السنين ببلاد إفريقيَّة من أرض المغرب، ويلقب أميرهم بالمهدي، وهو أبو محمد عبيد الله بن ميمون القداح، وقد كان صباغًا بسلمية، وكان يهوديًّا، فادعى أنه أسلم، ثم سافر من سلمية، فدخل بلاد إفريقية، فادعى أنه شريف فاطمي، فصدقه على ذلك طائفة كثيرة من البربر وغيرهم من الجهلة، وصارت له دولة، فملك مدينة سِجِلْماسَة، ثم ابتنى مدينة وسماها المهدية، وكان قرار ملكه بها، وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه، ويدعون إليه ويترامون عليه، ويقال: إنهم إنما كانوا يفعلون ذلك سياسة ودولة لا حقيقة له».
وقال ابن خلدون:([5])
« وفي سنة سبع عشرة هجم على مكة (يقصد أبا طاهر القرمطي)، وقتل كثيرًا من الحجاج ومن أهلها، ونهب أموالهم جميعًا، وقلع باب البيت والميزاب، وقسم كسوة البيت في أصحابه، واقتلع الحجر الأسود وانصرف به، وأراد أن يجعل الحج عنده، وكتب إليه عبيد الله المهدي من القيروان يوبخه على ذلك ويتهدده، فكتب إليه بالعجز عن رده من الناس، ووعد برد الحجر، فرده سنة تسع وثلاثين، بعد أن خاطبه منصور بن إسماعيل من القيروان في رده فردوه، وقد كان بحكم المتغلب على الدولة ببغداد أيام المستكفي بذل لهم خمسين ألفًا من الذهب على أن يردوه، فأبوا وزعموا أنهم إنما حملوه بأمر إمامهم عبيدالله، وإنما يردونه بأمره، وأمر خليفته وأقام أبو طاهر بالبحرين، وهو يتعاهد العراق والشام بالغزو، حتى ضربت له الإتاوة ببغداد وبدمشق على بني طنج، ثم هلك أبو طاهر سنة اثنتين وثلاثين لإحدى وثلاثين سنة من ملكه، ومات عن عشرة من الولد، كبيرهم سابور، وولي أخوه الأكبر أحمد بن الحسن، واختلف بعض العقدانية عليه، ومالوا إلى ولاية سابور بن أبي طاهر، وكاتبوا القائم في ذلك، فجاء جوابه بولاية الأخ أحمد، وأن يكون الولد سابور ولي عهده، فاستقى أحمد في الولاية عليهم، وكنوه أبا منصور، وهو الذي رد الحجر الأسود إلى مكانه كما قلناه».
[1] - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم- الطبعة الأولى بمطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن سنة 1357هـ، ج 6 ص 222
[2] - الكامل في التاريخ - ج 6 صفحة 203 - نشر إدارة الطباعة المنيرية لصاحبها محمد منير الدمشقي سنة 1358 هـ
[3] - تاريخ الأمم والملوك - ج 13 ص 70 طبعة دار القاموس الحديث للطباعة والنشر ببيروت
[4] - البداية والنهاية - ج 11 ص 160 - 162
[5] - العبر وديوان المبتدأ والخبر - ج4 ص 191 - 192