لو كان الذي يكذب موظفا صغيرا في وزارة أو في سفارة لكان ممكنا أن نصفح عنه. لكن المسألة تكون غير قابلة للطي حين يكون الكاذب من وزن علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى الإيراني للشؤون الدولية، وذلك لأنه كذب بصفته الوظيفية وبملابسه الرسمية وبلسان رئيسه ولسان الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كلها، بحرسها الثوري ومخابراتها وأعوانها ووكلائها في الدول التي تجثم على صدور شعوبها.
أعلن ولايتي خلال حديثه في نادي فالداي بموسكو أن “حكومة الرئيس بشار الأسد كانت ستسقط خلال أسابيع لولا مساعدة إيران”، و”لو لم تكن إيران موجودة لكانت سوريا والعراق تحت سيطرة أبي بكر البغدادي”.
وتعلمون أن الكذب على الأحياء، فيه الكثير من الوقاحة والقليل من الذكاء. فالزمن الذي مرّ على الغزو الأميركي للعراق في 2003، وعلى إقدام حكومة الولايات المتحدة الأميركية على إهداء نظام الولي الفقيه فرصةَ احتلاله الوطن الذي دوّخه ثماني سنوات وعجز عن تركيعه في طول تلك الحرب وعرضها، لم يَبلغ، بعدُ، مئات من السنين، ليكون الذين عاصروا أحداث تلك الأيام السود قد ماتوا وغاب معهم الكثير من ذكرياتها وآلامها وأحزانها ويصبح ممكنا أن يُصدق البعض من أحفادهم ما يقوله المستشار الإيراني.
الحقيقة التي لا يُنكرها إلا مغرض أو جاهل أو مغرَّر به هي أن نظام الولي الفقيه، نفسه، بهيمنته على العراق وعلى سوريا، وبأساليبه القمعية العدوانية الدموية التي انتهجها لفرض احتلاله بقوة سلاحه وسلاح ميليشياته العراقية واللبنانية والسورية كان الدافع الأول والمحرك الأهم لجريمة تسلل عناصر القاعدة إلى العراق، مستغلة ظروف نقمة سكان المحافظات السنية على الهيمنة الإيرانية على البلاد والعباد.
أبومصعب الزرقاوي لم يظهر إلا في ظل الاحتلال الإيراني، وفي عهد وكيله المتعصب نوري المالكي الذي هيّأ البيئة الملائمة لولادة ميليشيات سنية متطرفة لردع ميليشيات شيعية متطرفة، تحت شعار الدفاع عن الطائفة السنية، وحماية أبنائها من ظلم الإيرانيين ووكلائهم.
ومن الأمور الثابتة، تاريخيا، أن تنظيم الدولة الإسلامية لم يرث عصابات الزرقاوي، ولم يصبح ما صار يُعرف بداعش إلا في مخيمات الاعتصامات السنية في الرمادي والفلوجة، وبالتحديد في ولاية نوري المالكي الثانية.
ولتنشيط ذاكرة ولايتي نعيد عليه ما كانت الاعتصامات تطالب به. وكان من تلك المطالب إطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات في سجون الحكومة، ووقف نهجها الطائفي، وإلغاء المادة 4 إرهاب وقانون المساءلة والعدالة من الدستور العراقي.
وبسبب إهمال الحكومة لتلك المطالب، رفع المعتصمون سقفها وصاروا ينادون بإسقاط النظام الطائفي ووقف التدخل الإيراني في شؤون العراق.
وفي حملة فض اعتصام الأنبار في 30 يناير 2013 التي أقدمت خلالها قوات المالكي على تمزيق الخيم ومهاجمة المعتصمين بالعصي والهراوات والرصاص الحي قُتل 10 أشخاص، واعتُقل عضو مجلس النواب أحمد العلواني، واغتيل شقيقه علي العلواني ومُثّل بجثته.
وهنا نأتي إلى العصب الحساس في المسألة. فقد صار طبيعيا ومتوقعا أن يحتمي المعتصمون وأبناءُ عشائر الأنبار بالمسلحين من بقايا تنظيم الزرقاوي ويحتضنوهم من أجل مؤازرتهم وردع جيش الحكومة وميليشياتها.
وكانت تلك هي الفرصة الذهبية لأبي بكر البغدادي ليوسع تنظيمه ويسلحه، ويتخلى عن اسم القاعدة الذي كان الزرقاوي قد أطلقه على تنظيمه، ليولد تنظيم جديد باسم الدولة الإسلامية في العراق والشام وهو ما عرف بداعش.
ويبدو أن ولايتي ينسى أو يتناسى أن حكومة نوري المالكي أطلقت سراح أهم قادة القاعدة، وسهّلت عبورهم إلى سوريا، باعتراف وزير العدل، ليعلنوا عن تأسيس فرع جديد لداعش في سوريا.
ومن الحقائق التي أهملها ولايتي أيضا أن نظام بشار أسد أطلق من سجونه، هو الآخر أيضا، سراح عدد آخر من أخطر عناصر القاعدة، وسهل انتقالهم إلى الرقة، ليعلن أبوبكر البغدادي ضمَّ تنظيمه العراقي إلى التنظيم السوري لتبدأ حلقات مسلسل داعش الذي اتخذ منه النظام الإيراني وحزبُ الله اللبناني وشبيحة بشار الأسد ذريعة للفتك بالانتفاضة السورية، بحجة أنها إرهابية متضامنة ومتحالفة مع عصابات البغدادي، ومع القاعدة.
ومعروف ما تبع ذلك من تآمر حكومة نوري المالكي مع النظام الإيراني لتسهيل احتلال الموصل وصلاح الدين وأجزاء أخرى من العراق وسوريا للانتقام من المعارضين السنة ولتأسيس الحشد الشعبي وإنفاق المليارات من الدولارات تحت ذريعة تحرير الموصل واجتثاث داعش ومقاتلة الإرهاب والإرهابيين.
وكان على ولايتي، لو كان يحترم نفسه وجمهوريته، أن يقول الحقيقة، وهي أن أبابكر البغدادي لم يكن موجودا عند اندلاع الانتفاضة السورية في فبراير 2011، وأن النظام الإيراني، يومها، كان هو داعش الشيعي الذي شارك شبيحة النظام السوري في قتل أكثر ما يمكن قتله من المنتفضين الذين كانوا يطالبون بعدم تدخل النظام الإيراني في الشؤون السورية الداخلية.
بعبارة أخرى. إن السياسات الإيرانية الطائفية المتطرفة هي أهم أسباب ظهور أبي بكر البغدادي، بعد ذلك، بأكثر من عام. ومن أول اندلاع الانتفاضة في فبراير 2011 وحتى ظهور البغدادي كانت المسيرات والتظاهرات سلمية لم يحمل فيها متظاهر واحد سلاحا، برغم أن النظام السوري، ومعه حزب الله اللبناني وضباط الحرس الثوري الإيراني، كان يقابل هؤلاء المتظاهرين العزّل الذين يصفهم ولايتي بأنهم إرهابيون، بالرصاص وقنابل الدبابات والطائرات والمدفعية الثقيلة، دون تمييز بين كبير وصغير.
ومن أكاذيبه الملحقة بكذبة أبي بكر البغدادي قوله إن تواجد “إيرانيين في كل من سوريا والعراق هو استشاري، وفي حال طلبت الدولتان من إيران الخروج فستخرج على الفور”، وهو يعرف ونحن نعرف والعالم كله يعرف أن الحكومتين العراقية والسورية لن تطلبا ذلك، إلا إذا جاء الطلب من إسرائيل وروسيا وأميركا، لا غير.
ترى هل من المعقول أن ولايتي لم يسمع كبار قادة نظام وليه الفقيه، وهم يباهون ويفاخرون بتدخلهم في شؤون الشعوب الأخرى ويعلنون أنهم نقلوا ساحات القتال مع العدو إلى مسافات بعيدة، واصفين العراق ولبنان وسوريا بالخطوط الأمامية لحرب إيران مع أعدائها؟
(العرب)