في التاريخ الإنساني تقوم الإمبراطوريات وتتسع وتكبر على محيطات واسعة من الكون بعناصر القوة والهيمنة والاقتدار فتخضع لها الأمم والدول، لكنها حينما تشيخ وتفتك بها أمراض السلطة والفساد وعناصر التفكك من داخلها تتهاوى وتموت وتصبح حكاياتها دروسا للإنسانية جمعاء. هكذا كانت الإمبراطوريات القديمة كالفارسية والرومانية والعربية ثم المغولية والعثمانية والروسية والبريطانية والإسبانية والبرتغالية وأخيرا الإمبراطورية الأميركية.
ظلت القوة علامة من علامات بناء الإمبراطوريات، ولم يُحك عن أمة استعادت إمبراطوريتها بالأمنيات بعد أن ماتت، فذلك اعتداء على منطق التاريخ الإنساني، لكن المسؤولين الإيرانيين وبسبب نفوذهم في العراق وسوريا ولبنان يتبجحون بأنهم بصدد إقامة “إمبراطوريتهم الفارسية الجديدة”، وهذا ما أعلنه قبل أيام عضو المجلس الأعلى للثورة الثقافية، رحيم بور أزغدي، لتلفزيون أفق الإيراني بقوله “آن الأوان لإعلان الإمبراطورية الفارسية في المنطقة”، موضحا أنه لو يعتبر ذلك توسعا وتفكيرا بإقامة إمبراطورية واسعة فلا نقاش على الاسم، “لأننا نريد أن نقيم إمبراطورية”.
ولم يكن ذلك هو التصريح الأول من مسؤول إيراني، مستندا على فرضية سيطرة إيران على أربع دول في المنطقة وتبعيتها لنظام ولاية الفقيه. ذات المسؤول اعترف بأن هدف تدخلات بلاده في البلدان “الصديقة لأميركا” من أجل إسقاط الحكم فيها.
أما المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، بهرام قاسمي، فقال “إن إيران ستقاتل الأميركان بشباب العراق وأمواله في خدمة مشروع الإمام الخميني والانتخابات القادمة ستجعل القرار السياسي بيد الحشد ومن يتحالف معه من سنة العراق”. هذا المسؤول يتحدث ويتصرف بعنجهية وتعال، ويحاول أن يفتح أبواب التاريخ بما تحمله من جروح متناسيا أنه لو قلب أي عراقي أو عربي صفحات ذلك التاريخ لاتهم من قبلهم، أو من قبل معاونيهم خارج إيران، بإثارة نزعات الحقد والكراهية بين العرب وإيران. أليست هذه التصريحات تحمل نبرة التعالي والاستهانة بمنطق الدول المستقلة كأعضاء في هيئة الأمم المتحدة.
تعتقد إيران أن ما تحقق لها من مكاسب سياسية ولوجستية في العراق بعد عام 2003 أو في سوريا ولبنان هو نهاية المطاف، ما يجعلها ترسم ملامح “إمبراطوريتها الفارسية الجديدة”. لنصدق جدلا حلم “الإمبراطورية الفارسية” الذي تعتقد طهران بأنه يتحقق خصوصا في العراق، ولنناقشها بالعقل والمنطق التاريخي والسياسي والواقعي. فالإمبراطوريات تقوم على أعقاب حروب كبيرة وانتصارات هائلة ونفوذ عالمي واسع، وقدرة على التحكم بالبلدان الخاضعة، فأي انتصار حققته إيران على العراق، هل هو ذلك التحالف المشؤوم مع أميركا “الشيطان الأكبر” في احتلاله بالعساكر الأميركان واستلامه منهم.
والسؤال المنطقي الآخر يقول على أي من الأسس يتم بعث الإمبراطورية الفارسية القديمة، وهي واحدة من الحضارات الإنسانية القديمة، لكنها حضارة استندت على الديانة الزراديشتية المجوسية وقد انتهت بسقوط عاصمتها المدائن في العراق عام 637 م على يد دولة الفتح الإسلامي ودخول أبناء فارس في الإسلام، فهل الدعوة إلى انبعاث هذه الإمبراطورية الجديدة تعني الثأر ممن أسقطها من العرب المسلمين في معركة القادسية، أم إن المقصود هو قيام إمبراطورية فارسية بمعنى عصري قائم على التفوق العسكري والمدني والتكنولوجي مثل الإمبراطوريات الحديثة (بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وأميركا) والتي شاخت وانتهت، وإيران لا تمتلك أيا من مقوماتها.
صحيح أن إيران لديها اليوم قدرات تصنيعية على غرار قدرات كوريا الشمالية تحققت بأموال الشعوب الإيرانية المظلومة التي تعيش الفقر والجوع والحرمان من أبسط الحقوق، والمظاهرات الشعبية التي تواجه يوميا بالقمع والقتل دليل على ذلك، فأي قواعد حضارية للإمبراطورية الفارسية الجديدة؟ أم إنها إمبراطورية “المقاومة والممانعة” التي يقودها نظام ولاية الفقيه، وهو نظام لا يستند على أي مقومات عصرية وإنسانية، لكنه يعلن عداوته لمعسكر أميركا وهي شعارات سياسية غير حقيقية لا علاقة لها بمحاربة أميركا لأن إيران تربطها علاقات متينة بدول خليجية “صديقة لأميركا”، أم إن مبدأ التدخل بشؤون الدول المجاورة هو واحد من عناصر الإمبراطورية الجديدة خصوصا في العراق إلى درجة أنها تتدخل في تقرير مصير الانتخابات في هذا البلد، حيث صرح ولايتي مستشار خامئني خلال زيارته قبل أيام لبغداد “إن الصحوة الإسلامية ستمنع الليبراليين من تسلم مقاليد السلطة في البلاد” ومعروف عن أي صحوة إسلامية يتحدث ولايتي؟
فقد المسؤولون الإيرانيون توازنهم في التصريحات عالية النبرة، وبالإفصاح عن مدى نفوذهم في العراق إلى درجة أنهم يعلنون الكثير من صفحات ذلك النفوذ بعد عام 2003، فأزغدي نفسه يعلن أنهم (الإيرانيون) هم الذين أعدموا صدام حسين بتكليف جماعتهم في بغداد حسب قوله، فيما صرح نوري المالكي بتاريخ 2 يناير 2017 “كنت مدركا جيدا للمؤامرة التي كانت تحاك حول قضية الإعدام، فالجانب الأميركي طلب تأجيل إعدام صدام 15 يوما ولكنني رفضت رفضا قاطعا، لأنني كنت أعرف أنه إذا لم يتم إعدامه اليوم فسوف يتم تهريبه من العراق”. وتابع “وأخيرا خرجت محامية صدام واعترفت بأنه كان هناك اتفاق مع قطر ومجلس الأمن الدولي على أن يصدر قرار من مجلس الأمن الدولي بطعن بالمحكمة العراقية ونقل صدام للخارج”. المسؤول الإيراني أراد الإيحاء بأن ما قام به نوري المالكي حصل بتعليمات من قبلهم.
ونعود إلى إمبراطورية “المقاومة والممانعة” التي تتربع على تاجها دولة فارس، فإذا كانت موجهة ضد الاستكبار العالمي الأميركي فلماذا أعدموا صدام حسين، أليس هو في مقاييسهم للمقاومة والممانعة أحد أقطاب ذلك المعسكر وأطلق على إسرائيل عدوة إيران 39 صاروخا وأودع عشرات الطائرات لدى طهران خشية تدميرها من قبل “عدوان التحالف الأميركي”، أم إنه الانتقام الذي وُجّه لشعب العراق ودولته؟
وبذات العنجهية تباهى نائب القائد العام للحرس الثوري الإيراني العميد حسين سلامي قائلا “إن الجيشين العراقي والسوري يشكلان عمقا استراتيجيا لإيران”، ما يكشف مدى توغل طهران في المؤسسات العسكرية من خلال الميليشيات التابعة لها، وتحويلها إلى أدوات لتنفيذ مخططاتها التوسعية في المنطقة.
ووفقا لوكالة فارس، أكد سلامي “إن إيران تمتلك القدرة على مواجهة أميركا، وتعتبر الخيار العسكري ضدها حقيقة قائمة”، وهدد باستهداف حاملات الطائرات الأميركية بالصواريخ في أي مواجهة محتملة، مضيفا أن “الجيشين السوري والعراقي يشكلان العمق الاستراتيجي الدفاعي لإيران، وأفضل استراتيجية للاشتباك مع العدو هي في مناطق بعيدة عن إيران”.
وهذا التصريح بحاجة إلى تفنيد مباشر من رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الذي يؤكد أن العراق ليس في أي حلف في المنطقة. وإزاء حزمة التصريحات المتجاوزة على سيادة العراق، وما أثارته من استياء شعبي عراقي على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ظهر الناطق باسم الخارجية العراقية بتصريح متواضع بتاريخ 22 فبراير، اعترف فيه بالتجاوز على السيادة العراقية دون ذكر اسم إيران ونفى أن تكون بغداد خاضعة لنفوذ أحد.
تستمر إيران بمخططها لتوسيع النفوذ الإقليمي من خلال تغذية الحروب الطائفية ودعم الميليشيات والجماعات المتطرفة، حيث أكد علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى علي خامنئي، أن بلاده لا تعتزم تقليص نفوذها في الشرق الأوسط. نسي نظام ولاية الفقيه في طهران أن الإمبراطوريات لا تصنعها التصريحات، ويصدق على إمبراطورية فارس المزعومة القول الصيني المشهور “نمور من ورق”.
(العرب)