لا يتضمن دستور العراق (2005) أي إشارة إلى ولاية الفقيه، الخاصة أو العامة، ما عدا ماورد في الديباحة من عبارة «قياداتنا الدينية» و«مراجعنا العظام»، وهذه لا تعني سوى التبجيل، ضمناً مع عبارة «قوانا الوطنية». كذلك قد بينت مرجعية النجف، ممثلة بآية الله علي السيستاني، أنها ليست مع نظام ولاية الفقيه المطلقة، مثلما هو الحال في إيران، وتكررت العبارة على لسانها: «المرجعية لا تمارس دوراً في السلطة والحكم» (الخفاف، النصوص الصادرة عن السيستاني في المسألة العراقية).
لكن في خطبة الجمعة (13/6/2014)، بمناسبة ولادة المهدي، تحدث ممثل المرجعية ولسان حالها الشيخ عبد المهدي الكربلائي عما يفهم أنها ولاية فقيه مطلقة، بإعلان المرجع الديني قائداً ربَّانياً، لأنه نائب المهدي المنتظر (يُذكر أنه غاب 260هـ وحتى يومنا هذا). يقول الكربلائي من صحن مرقد الحسين بكربلاء الآتي: «الوصية الأخيرة المهمّة، إنّ الإمام والأئمة الآخرين بينوا لنا أنه في حال الغيبة، أي أنه لا يمكن الاتصال المباشر بالإمام، كيف نوصل حبل الطاعة؟ حبل الولاء للإمام الذي لا نتمكن من الاتصال به مباشرة؟». يُجيب الكربلائي، بالقول إن الاتصال بالإمام يتم عن طريق «الفقهاء العدول مراجع الدين العظام الذين تتوفّر فيهم الشروط التي بيَّنها الإمام، هؤلاء يجب طاعتهم، يجب الالتزام ببرنامجهم وبمنهجهم وبإرشاداتهم وبتوجيهاتهم، ليس فقط في الاستفتاءات، ليس فقط في أحكام الحلال والحرام، ليس فقط في أحكام العبادات والمعاملات، بل في كل شيء يصدر منهم، في كل مجالات الحياة، لأن الإمام أطلق في عبارته حيث قال: (فإنّهم حجّتي عليكم)، ولم يقيّد بمجال من مجالات الحياة أبداً، وهو حجّة الله عليهم، لذلك يجب طاعتهم في كلّ ما يصدر منهم».
لقد أعلنها الكربلائي، وعلى لسان المرجعية، ولاية فقيه مطلقة، وهي التي نفتها المرجعية نفسها مثلما تقدم. فهل تحدث الكربلائي بما يعتقد هو، أم أنها رسالة من المرجعية بإعلان ولايتها المطلقة؟ العبارة التي ذكرناها سلفاً: طاعتهم «في كلّ مجالات الحياة»، لا يفهم منها غير السلطة السياسية، بمعنى أن مقلدي المرجعية ملزمون بأوامرها وتوجيهاتها، ولا قيمة للبرلمان المنتخب، وبالتالي لا قيمة للمنافسة في الانتخابات. فعلامَ هذا البذخ، وهذا النزاع الانتخابي، والأمر بيد نائب الإمام الغائب، الذي نوه الكربلائي في خطبته أنه حيُّ، يرى ويسمع ما يحدث، ويتدخل عن طريق نائبه؟!
كيف الرُّكون إلى نظام نيابي والسلطة منتزعها نائب الإمام، حسب خطيب المرجعية: «لا يصحّ أن يكون للإنسان المؤمن رأي في منهج ورأي المرجع الذي تتوفّر فيه الشُّروط»! أقول: هل انتبهت المرجعية إلى هذا التناقض بين آرائها المنشورة، وما ورد على لسان ممثلها وخطيبها الشيخ الكربلائي؟!
لا يخفى أن فكرة المهدي المنتظر من أخصب الأفكار المولدة للنزاعات، وأن السنّة والشيعة يقرونها عقيدة دينيةً، ولا يختلفون في الحديث: «يلي أَمر هذه الأُمة في آخر زمانها رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي» (البستوي، المهدي المنتظر في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة). إلا أن عند السنة سيخرج بين جيله، وعند الشيعة مولود، وما زال حيَّاً، غاب غيبتين صغرى وكبرى (260- 329هـ)، وفي الأولى كان السفراء الأربعة بينه وبين الناس (الطُّوسي، كتاب الغيبة)، ولما انتهى عهدهم صار الأمر للفقهاء. فترى ولاية الفقيه معتمدة على أن الأخير يُقيم حكمه بصلاحيات إلهية (الخميني، الحكومة الإسلامية).
نحن أمام حيرة مضاعفة؛ هوس الانتخابات وتكاثر الأحزاب، وحيرة في أن المرجع الديني يتدخل في «كل مجالات الحياة»، ومن المؤكد أن المقصود بها الحياة السياسية. وبهذا لا توجد قيمة للانتخابات! فهل لدى المرجعية جواب على هذا الخطاب، أم أنه خطابها المعتمد؟!
أظن أن الناس يتمنون خروج الإمام من غيبته اليوم قبل غد، كي يعرفوا الصحيح من المختلق على ألسنة الرّواة، هل عُين الفقيه نائباً مطلقاً عليهم بأمر إلهي، لأن الأمر يتعلق بإدارة السياسة والاقتصاد، أم أن الانتظار سيطول، وتبقى سلطة الفقهاء إلهية مفتوحة، والبرهان روايات مختلف عليها؟!
إنه ليس طلب أهل هذا العصر، بل سبقهم «الحميري» (ت 173هـ)، مناشداً مهدي عصره، محمد بن الحنفية (ت 81هـ): «حتى متى؟ وإلى متى؟ ومتى المدى؟/ يا ابن الوصيِّ وأنتَ حيّ ترزقُ » (ابن المعتز، طبقات الشُّعراء). أجده طلباً مشروعاً في هذا الوقت، فالشيعي يتعرض لقوامة باسم المنتظر، ولم يعد الأمر انتظاراً وأملاً، بل صار استبداداً بيد الفقيه، أبعد من «العبادات والمعاملات»، بعذر نيابة الإمام والتمهيد لظهوره! وفي حال العراق يوجد فقهاء مطلقون لا فقيه واحد، ومن خارج الحدود. «فيا ليت شعري ما الصحيح»؛ ما صرّحت به المرجعية أم ما رماه الكربلائي في الأذهان؟!
(الاتحاد)