عاشت إيران خلال الآونة الأخيرة مشهدين مختلفين تمامًا، بينهما بون شاسع من التناقض السياسي. فمن جهة، وفي أجواء احتفالية، تم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي. ومن جهة أخرى، كان الوضع دمويًا ومأساويًا في إقليم الأحواز العربي المحتل، وكان أزيز الطلقات النارية التي أطلقتها قوات الاحتلال الفارسي يعصف بحياة ومصائر الشعب الأحوازي، الذي انتفض من جديد ضد النظام الإيراني، وأسمع العالم أجمع كلمته الرافضة للمحتل الفارسي.
وشهدت طهران مؤخرًا، مسرحية تنصيب إبراهيم رئيسي، في وقت فتحت القوات القمعية قبل أيام النار على المواطنين، الذين نزلوا إلى الشوارع في مختلف أنحاء البلاد بشعارات «الموت للديكتاتور» و«يسقط الولي الفقيه»، ما تسبب في سقوط عدد كبير منهم بين قتيل وجريح.
وبطبيعة الحال، يرفض الرئيس الجديد التخلي عن أيٍ من «ثوابت النظام»، وعلى رأسها مبدأ إشعال «الحروب بالوكالة»، لأنها جزء من برنامجه لإكمال الثورة التوسعية، أولًا بصفته رئيسًا، ثم لاحقًا بعد ترقيته المحتملة ليكون المرشد الأعلى الجديد. لكن عليه أن يحقق المستحيل، ألا وهو الوقوف بحزم ضد الغرب بشأن البرنامج النووي ومقاومة الضغط لتغيير المسار، وإيجاد الأموال لتهدئة فقراء إيران الغاضبين.
وفي إشارة ذات مغزى خلال حفل التنصيب، جرى تعليق صور قائد فيلق القدس المقتول قاسم سليماني، المعروف بدوره في صناعة ميليشيات «الحشد الشعبي» في العراق، و«الحوثي» في اليمن، ورعاية عدة حركات في سوريا ولبنان، بخلاف ميليشيات وحركات أخرى وصلت لعمق إفريقيا. ظهور صور سليماني خلال تنصيب رئيسي، يعني أن النظام ماضٍ في كل سياسته العدوانية، التي أوصلته إلى نقطة اللاعودة.
جاء إبراهيم رئيسي بمباركة «الحرس الثوري»، وهو لن ينحرف أبدًا عن المخطط المرسوم له، ولهذا فإن حضور ممثلي أذرع إيران الميليشياوية حفل تنصيبه، إنما هي رسالة واضحة لاستمرار عمليات التصعيد العسكري التي باتت واضحة في حروب السفن، واستمرار إطلاق ميليشيات الحوثي الصواريخ صوب السعودية، واستهداف المصالح الأمريكية في العراق.
لذلك كله، واجه النظام الإيراني ثورة الأحواز الجديدة بالحديد والنار، حيث قمعت ثلاث وحدات خاصة؛ من بينها وحدة القوات الخاصة في الشرطة الإيرانية المعروفة باسم «نوبو»، وهي القوات «الأشرس في طهران»، انتفاضة الأحوازيين ضد سياسة تجفيف الأنهار، وتحويل مجاريها إلى المناطق الفارسية.
ولقد شهد العالم أجمع، عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت، صوتًا وصورة، الزخم الشعبي الكبير للثورة الأحوازية. واستخدمت قوات الاحتلال الإيرانية أسلحة آلية مميتة وبنادق، لسحق الاحتجاجات السلمية في معظم أنحاء الإقليم العربي المحتل. وقتلت القوات الإيرانية ما لا يقل عن 8 أشخاص في 7 مدن مختلفة، وأصابت واعتقلت العشرات منذ اندلاع الاحتجاجات في الأحواز.
ورغم هذا القمع الدموي، لاقت احتجاجات الأحوازيين تعاطفًا شعبيًا واسعًا في إيران. وخرج أهالي تبريز؛ مركز محافظة أذربيجان، في احتجاجات حاشدة، بعد احتجاجات مماثلة في محافظات طهران، وبوشهر، ولورستان وكرمانشاه، ويزد وأصفهان والبرز. وانضمت مدن سقز في محافظة كردستان، وإيلام، وبجنورد، مركز محافظة خراسان الشمالية، إلى المدن المؤيدة لاحتجاجات الأحواز.
وأكدت هتافات الإيرانيين التي نادت بـ «الموت للدكتاتور»، والتضامن الواسع في مناطق الأذريين الأتراك والعرب والأكراد مع مطالب الأحوازيين، وجود نقمة شعبية كبيرة على نظام «ولاية الفقيه» في كل مكان، وأن ثمة إجماعًا بين كل الشعوب الإيرانية على وصول الأمور إلى طريق مسدود، خصوصًا أن النظام يتجه إلى مزيد من التشدد، ويكسب مزيدًا من الأعداء في الداخل والخارج يومًا بعد يوم.
وسيعزز حكم «رئيسي» قبضة التيار المحافظ على كل مفاصل الحكم في إيران، وعلى مؤسسات الدولة والمؤسسة الدينية، وبالتالي لن يكون هناك مجال للاجتهاد أو لوجهات نظر متباينة حول القضايا والمسائل الأساسية التي تواجهها البلاد، مثل الملف النووي الإيراني، كما أن فوزه سيمكن رجال المرشد من لعب دور أكبر في العمل الحكومي، ما سيعني وجود «دولة داخل الدولة» في البلاد.
وكان «رئيسي» هو المرشح المفضل لدى المرشد علي خامنئي. فكلاهما يتفق على أن كل الاحتجاجات التي تعصف بإيران، ترجع إلى ضعف الإدارة، وانهيار الثقة بين النظام والشعب. ويعتبر الاثنان أن المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة سوف تشتت الانتباه عن الأجندة المحلية، وليست هي «الحل السحري» المرتقب لمشاكل البلاد المستعصية، بل إن الحل هو تصعيد الأمور مع كل القوى الإقليمية والدولية، لتصبح إيران دولة ضد الجميع!
كما أن الدعوات الأخيرة التي تعالت مؤخرًا، وسبقت تنصيب الرئيس الجديد تلوح بمشاكل أعمق في الأفق السياسي الإيراني، خصوصًا بعدما دعت جماعات حقوقية دولية إلى محاكمة «رئيسي» بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، على خلفية اتهامه بالتورط في عمليات إعدام جماعية منذ أكثر من 3 عقود مضت، لم ينس العالم خلالها أن الرئيس الجديد ليس أكثر من «مجرم ضد الإنسانية».
ولا جدال أن الاحتجاجات التي شهدتها العديد من المدن الإيرانية، وتحولت من مظاهرات مطلبية للأحوازيين إلى انفجار شعبي عارم، كانت أمرًا متوقعًا؛ فهي نتيجة طبيعية للأحوال المتردية التي تعيشها الشعوب الإيرانية، ولفتت تلك الاحتجاجات أنظار العالم بقوة إلى معاناة المواطن الإيراني، المستمرة منذ أكثر من أربعين سنة، بسبب حكم الملالي الذي أودى بالبلاد إلى حافة الهاوية، على المستويات كافة، سياسية واجتماعية واقتصادية وصحية.
ويصارع نظام الملالي من أجل البقاء على أكثر من جبهة، متجاهلًا أزمة وباء «كورونا" المنتشر في إيران منذ قرابة 16 شهرًا. وفيما تجتاح «الموجة الخامسة» من كورونا مدن إيران وتتسبب في سقوط الضحايا، مازالت مشكلة توفير اللقاح قائمة، ولم تحل بعد، ولا أمل في ذلك على المدى المنظور. والغريب أنه لتبرير عدم تطعيم الشعب الإيراني، قال الرئيس السابق حسن روحاني: إن «التطعيم لا جدوى منه، ووقت المناعة هو عندما يتم تطعيم جميع شعوب العالم»!
والسؤال المصيري الذي يطرح نفسه الآن، هو: لماذا تتكرر مثل هذه المظاهرات في الأحواز، أو غيرها من المدن الإيرانية؟ وما الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من الموجات الاحتجاجية المستمرة في إيران؟ وهل يؤذن ذلك بقرب نهاية نظام «الولي الفقيه» الذي عفا عليه الزمن؟
لا شك أن هذا النوع من الانتفاضات الجماعية ضد الملالي هي إحدى سمات هذه الفترة من عمر النظام الإيراني، وأنها ستتكرر خلال الفترة المقبلة باستمرار في جميع أنحاء البلاد، ولن يتمكن هذا النظام أبدًا في كل مرة من السيطرة على هذا النوع من الانتفاضات الاجتماعية، لأنه لم يعد - ببساطة- قادرًا على حل أبسط أزمات البنية التحتية في البلاد، ومواجهة الضغوط الخارجية في نفس الوقت.
ولن يكون هناك تغيير يُذكر بين عهدي «روحاني» و«رئيسي» فيما يخص الوضع الداخلي، من جهة قمع الحقوق وغياب الحريات العامة، فقد ورث الرئيس الجديد عن سلفه السخط الشعبي من النظام السياسي الإيراني ورموزه، ولن تكون الاحتجاجات التي جرت في نهاية عهد روحاني هي آخر المظاهرات المعبرة عن سخط الشعوب الإيرانية على أداء النظام عامة، وإن اختلفت الوجوه، بل ستستمر. وسيكون رد النظام عليها أقوى وأكثر دموية وعنفًا.
وإن هذه الأزمات المستمرة مثل غيوم المطر، التي تحمل في جعبتها ثورات وانتفاضات مستمرة، ولذلك صعد «رئيسي» خادم النظام الأمين، إلى كرسي الرئاسة لمنع حدوث الثورة المقبلة. وإذا اشتعلت أي شرارة ثورية، فلن يسمح لها الرئيس الجديد بالتمدد، لأنها ستؤدي في النهاية إلى إسقاط النظام.
* رئيس مركز الخليج للدراسات الإيرانية