المال عطية الله لخلقه، فهو الذى جعلنا مستخلفين فيه، يقول الله تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) ]الحديد 7[
فهذا المال الذى بين أيدينا هو فى الأصل ملك لله، ونحن مستخلفون فيه ننفق بما أمر الله، وبما شرع، ولنا الأجر الكبير على ذلك، فإذا حاد الإنسان عن ذلك، وأنفقه فى غير محله منع منه، وأصبح هناك إسراف وسفه يقضى بالحجر عليه، كما قال الله تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) ]النساء 5[
لعظم أهمية المال للجميع قال الله تعالى (أموالكم)، فالمال مهم للدين والدنيا، روى أحمد والطبراني وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة» صححه الألباني وجماعة.
فلا تستقيم الحياة إلا بالمال، فهو عصبها، ولا تكتمل أركان الإسلام إلا به،
فهذا الركن الثالث من أركان الإسلام (الزكاة )، وهو ركن التعبد في المال،
كما أن أبواب الخير في الإنفاق كثيرة، وحث الإسلام عليها، وجزل العطاء لمن أنفق، قال الله تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ]البقرة 261[
وفي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها». فانظروا - رحمكم الله - كيف جمع هذا الحديثُ بين نعمة المال ونعمة العلم والحكمة، ولكن انظر ، كيف لو تمت هذه الحكمة مع المال؟
وتم استخدامه للأفضل إذن لأتى بالخير الكثير لهذا الدين، (إحسان التدبير واجتناب التبذير في المال)
هو أمر من الله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ) ]الإسراء 26-27 [
وقد أجمع العلماء على أن "حفظ المال" هو أحد الضروريات الخمس الكبرى، للشريعة ومقاصدِها. وحفظ هذه الضروريات يكون من ناحية الوجود و العدم.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "والحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما: ما يُقِيم أركانها ويُثَبِّت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود. والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم".
ولقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن(إضاعة المال) سواء كان للفرد أو الجماعة، وضياع المال العام أشد، الذى هو ملك لكل المسلمين.
وكما أنه وجب الحرص على عدم ضياعه، وجب الحرص أيضا في أوجه صرفه، فيقدم الأولى والأنفع بعد تقديم الحقوق الشرعية المنصوص عليها،
ومما دعاني لكتابة هذا المقال مناقشة مع أحد الفضلاء عن حجم الإنفاق الخيرى فى القارة الإفريقية، والإحصائيات المنشورة عن ذلك.
لذلك كانت فكرة الاستفادة من المال الخيرى، وتوجيه النظر إلى ما يكون له نفع أكبر، من المعلوم أن حجم المال الخيرى كبير جدا، فهو يصل إلى مليارات من الدولارات في مجموع أوجه صرفه، وتمتلك بعض الهيئات والمؤسسات الخيرية في دول الخليج رأس مال يصل إلى 500 مليون دولار وبعضها يصل إلى مليون دولار، وهى مؤسسات كثيرة ومنتشرة في أكثر من دولة.
ملحوظة.. (هذه الأرقام لا ترقى إلى حجم الجمعيات الغربية الأمريكية والتى يصل رأس مالها إلى مليارات من الدولارات و يباح لها كل شى ولا رقابة عليها، وفى نفس الوقت يحكمون الرقابة على المؤسسات العربية والإسلامية، بحجة محاربة الإرهاب الإسلامي، ويتم تجميد ومصادرة أموال المؤسسات العربية والإسلامية، ولا يسمح إلا لمن هو تحت المراقبة الصارمة، والعمل فيما هو مسموح به، وخاضع لهيئات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة، أو العمل في المجاهل الأفريقية التى لا ينظر إليها الغرب).
ولقد أصبح الغرب يراقب الأموال الخيرية، ويتتبع حركتها وحركة القائمين عليها، والدول التى ترعى تلك الهيئات، وكما أسلفنا فإنه يطلق العنان لمؤسساته، لأنها تخدم دولته، ولقد أصدر(كارل زينسميستر) كتابا باسم "تقويم البذل الأمريكي" يقول فيه:
(يعتبر البذل الخيري الخاص أمراً حيوياً أسهم في تكوين أمريكا وجعلها بلداً إستثنائياً كما هي اليوم وسأبدأ ببعض الأرقام يشكل قطاع العمل الذي لا يهدف للربحية 11%من مجموع قوة العمل في في الولايات المتحدة. وسوف يساهم بنسبة 6% من إجمالي الناتج المحلي هذا العام. ولكي نضع ذلك في المنظور نرى أن القطاع الخيري تجاوز قطاع الدفاع القومي لعام 1993 من حيث الحجم ويستمر بالنمو المطرد. ولا تأخذ هذه الأرقام الأعمال التطوعية في الحسبان: إذ يشكل العمل التطوعي الخيري ما يعادل — وهذا يختلف بحسب طريقة تعداده — ما بين 4 أو 10 مليون عامل متفرغ بدوام كامل. لذلك أرى أن البذل الخيري قوة هائلة في مجتمعنا ) تخيل هذه الأرقام من حجم الميزانية الأمريكية ، واما نحن ، فماذا يشكل عندنا العمل الخيري ؟ لاشئ بالنسبة لذلك ).
لكن يبارك الله فى القليل، فتكون له الثمرة الأكبر إذا رشد ووضع فى موضعة الصحيح، ومن خلال البحث في أوجه النشاط الخيرى للمؤسسات العربية والإسلامية، تجد أن أكثره إن لم يكن كله، عبارة عن إغاثة إنسانية، من طعام، ودواء، وحفر آبار، ومساكن إيواء، ورعاية أيتام، وأرامل، وذوى احتياجات خاصة، وبعض المشاريع الإنتاجية، والتدريب، وهى صغيرة في حجم الإنفاق بالنسبة إلى الخدمية، ولكن إذا نظرت إلى جانب التعليم، والثقافة، والأبحاث، والدعوة، فلن تجد شئ يذكر إلا القليل، مع أن هذا ما يبنى الأمم، فهو يخلصها من الإعاقة الذهنية، ويجعلها منتجة بدل من أن تكون عالة، ويجعلها مؤمنة بدل من أن تكون كافرة، ويعيد الروح فيها بدل عن حالة الموات، تخيل حجم ما أنفق فى أفريقيا لو أنفق مثله على الدعوة فى أوربا أو أمريكا أو اليابان أو الصين أو روسيا،
ألن يكون له تأثير كبير في تلك المجتمعات، وهى مجتمعات قوية منتجة لها دور في العالم، تخيل لو أنفق جزء كبير من هذا الانفاق على مراكز البحوث والدراسات، وإنشاء الكوادر العلمية، والدعوية.
إن اختراق هذه المجتماعات يوما ما سيكون فتحا، وليس كل الفتح بالسنان، والرماح، إنما بفتح العقول، والقلوب للإيمان بالله.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا, وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً, وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَيَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ)) متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح عن أبي هريرة
وأيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان )) رواه مسلم
هذا ما قصدت الإشارة إليه، والله يهدى إلى صراط مستقيم..