في النظر إلى التعيينات السياسية الأخيرة للرئيس الأمريكي ترامب والتطورات الأخرى، يبدو أن واشنطن مستعدّةً لإطلاق استراتيجية أكثر فاعليةً للتصدي لإيران والضغط عليها، الأمر الذي قد يعني تكثيف الرقابة على التحويلات المالية المسددة لمؤسسات النظام الإيراني والشركات المرتبطة بها.
في 29 آذار/مارس، أصدر “صندوق النقد الدولي” تقريراً ناشئاً عن أحدث “مشاورات المادة الرابعة” مع إيران. ومن خلال تسليطه الضوء على نقاط الضعف الاقتصادية للبلاد، يَبرز التقرير في فترة يخضع فيها الريال الإيراني لضغط مستمر. فقد تراجع سعر صرف الريال مقابل الدولار في السوق الحرة من 4275 في كانون الثاني/يناير إلى 4875 في 13 شباط/فبراير، مما دفع “المصرف المركزي” الإيراني إلى التدخل.
ومع أن سعر الصرف استرد قيمته إلى 4469 ريال بحلول 1 آذار/مارس، سرعان ما انهار مجدداً إلى 4784، أي أقل بنسبة 12% من السعر الذي بدأ فيه هذا العام. وأشار التقرير أيضاً إلى أن إيران تواجه مخاطر جدية من مجموعة عوامل أخرى، بما فيها “التباسات” متعلقة بتنفيذ الاتفاق النووي، و”ضغوط مالية ناجمة عن تقدم غير كاف في إعادة رسملة القطاع المصرفي وإعادة تنظيمه”، وتراجع مستمر في “الدعم السياسي أو الاجتماعي للإصلاح”.
ويقول ” پاتريك كلاوسون” ان الاقتصاد الإيراني يعتبر معرضاً بشدة للصدمات الخارجية، مثل انخفاض أسعار النفط أو فرض عقوبات دولية صارمة. وقد أظهرت الاحتجاجات الجماهيرية التي جرت في كانون الأول/ديسمبر-كانون الثاني/يناير أن المواطنين يلومون النظام السياسي برمته على المشاكل الاقتصادية، وبالتالي من المحتمل أن يؤدي تدهور الأوضاع إلى إحباط المزاج العام حتى بدرجة أكبر.
ويضيف أنه مع ذلك، فإن وتيرة الإصلاحات المالية شبه جامدة، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى الشلل السياسي، مع تصميم كل فصيل على حماية مكاسبه غير المشروعة حتى إذا ترك الجمهورية الإسلامية أكثر عرضة للضغط الأمريكي. وإذا قررت واشنطن زيادة الضغوط الاقتصادية على إيران، ستقوم الحكومة في طهران، كما يبين التاريخ، بإلقاء اللوم علناً على أمريكا بسبب المشاكل الاقتصادية للبلاد. ومن جهتهم، يرجَح أن يعزي الإيرانيون المشكلة إلى سياسات النظام المتشددة وعداء واشنطن على حد سواء. وبالتالي، سيعتمد التأثير السياسي للضغط الأمريكي على من سيفوز بلعبة إلقاء اللائمة بين الجانبين.
ويقول “جاي سولومون” في الوقت الذي تستقبل فيه إدارة ترامب وزير خارجية ومستشار أمن قومي جديدين هذا الربيع، يشغل مصير الريال الإيراني حيزاً كبيراً من استراتيجية البيت الأبيض حول كيفية التصدي لطهران. وكان الرئيس ترامب قد هدد بإعادة فرض العقوبات النفطية والمالية ضد طهران إذا لم يعزز الدبلوماسيون الأمريكيون والأوروبيون شروط الاتفاق النووي الإيراني التاريخي لعام 2015 قبل الموعد النهائي [للتوصل إلى اتفاق مكمل لسد الثغرات التي تشوب الاتفاق النووي] في 12 أيار/مايو.
ووفقاً لمسؤولين أمريكيين سابقين وحاليين، فإن الانخفاض الحاد في قيمة الريال في الأشهر الأخيرة يمنح الولايات المتحدة وحلفائها نفوذاً كبيراً على إيران إذا قرر الرئيس ترامب سحب دعمه للاتفاق النووي. ويُذكر أن العملة الإيرانية انخفضت إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق مقابل الدولار الأمريكي في آذار/مارس، وخسرت أكثر من ثلث قيمتها منذ أن تولى ترامب منصبه العام الماضي.
وقد تؤدي العقوبات الدولية الجديدة وغيرها من الخطوات المتخذة لاستهداف الاقتصاد الإيراني إلى انخفاض العملة بصورة أكثر.
وأفاد هؤلاء المسؤولون أيضاً بأنه يتعين على إدارة ترامب تحديد أهدافها بشكل واضح حول شن أي حرب مالية جديدة على إيران، وإن كان بعض مساعدي الرئيس يحثونه على البقاء في الاتفاق النووي. واقترح ترامب احتمال أن تسعى الولايات المتحدة إلى استخدام ضغوط مالية متزايدة على طهران لإقناعها بالعودة إلى طاولة المفاوضات بحثاً عن اتفاق أكثر جاذبيةً لواشنطن، وهو أمر استبعدته إيران بالفعل.
ويرى مسؤولون أمريكيون آخرون أن استهداف شؤون إيران المالية يشكّل أداةً لاستنزاف البلاد من قدرتها على دفع تكاليف عملياتها العسكرية في الخارج، لا سيما في سوريا ولبنان واليمن.
وتجدر الإشارة إلى أن ترقية المعارضين الكبيرين لإيران – وهما مستشار الأمن القومي القادم جون بولتون ووزير الخارجية المكلف مايك بومبيو – في الشهر الماضي ستزيد من إمكانية وضع استراتيجية أكثر طموحاً تهدف إلى تغيير النظام. فقد أعرب كل من الرجلين في الماضي عن أهمية استنزاف خزائن النظام لتشجيع التغيير السياسي بحسب “جاي سولومون”.
وصرّح بولتون أمام تجمّع لإحدى الجماعات الإيرانية المعارضة في الصيف الماضي أنه “يجب ان تتمثل السياسة المعلنة للولايات المتحدة في الإطاحة بنظام الملالي في طهران.” وأضاف “لن يتغير سلوك النظام وأهدافه، وبالتالي فإن الحل الوحيد هو تغيير النظام نفسه”.
وحول المشاكل المالية في طهران وهل ستختبر قُوّة السياسة الأمريكية يقول الباحث “جاي سولومون” وهو زميل زائر مميز في “زمالة سيغال” في تحليل نشره معهد واشنطن :
تواجه إيران في عام 2018 مجموعةً من التهديدات السياسية والاقتصادية والبيئية التي ربما لم يسبق لها مثيل منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية قبل نحو أربعين عاماً. فقد استمرت الاضطرابات التي بدأت في العام الماضي على مستويات متفاوتة، وشملت احتجاجات من قبل النساء اللواتي يسعين إلى مزيد من المساواة بين الجنسين، والنقابات العمالية التي أزعجها الركود في الأجور والتضخم. كما أدى نقص المياه والزلازل التي ضربت إيران إلى إرهاق قدرات حكومة الرئيس حسن روحاني. فضلاً عن ذلك، تنفق طهران مليارات [الدولارات] في عملياتها العسكرية في الخارج، ولا سيما في سوريا، حيث تقاتل منذ سبع سنوات لدعم نظام الرئيس بشار الأسد..
وتلوح في أفق طهران مسألة الخلافة السياسية أيضاً، إذ يبلغ المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي الثامنة والسبعين من عمره، وقد خضع لعلاج السرطان في السنوات الأخيرة. وهناك دلائل متزايدة على أن القادة العسكريين والسياسيين بدأوا يتنافسون على السلطة تحسباً لعدم استمراره [في الحكم]. ومن بين السيناريوهات المحتملة، يمكن لوحدة النخبة العسكرية الإيرانية، أي «الحرس الثوري الإسلامي»، أن تسعى إلى إقامة حكم عسكري. وفي هذا الإطار، كتب الخبير في الشؤون الإيرانية علي رضا نادر في شباط/فبراير: “تشير انتفاضة عام 2017، وتقسيمات النخبة الداخلية، وعدم قدرة خامنئي على الحفاظ على نظام سياسي مستقر، إلى أن زوال النظام، إذا حدث، يجب ألا يكون مفاجئاً“.
ومع ذلك، ليس من الواضح ما إذا كان جون بولتون ومايك بومبيو سيلتزمان بمواقفهما المتشددة ويسعيان إلى استغلال هذه الانقسامات في إيران عند توليهما منصبهما. ويمكنهما القيام بذلك إما عن طريق تصعيد الحرب المالية على إيران، أو السعي لتحدي طهران على جبهات أخرى. ومن جانبه، لم يضع الرئيس ترامب بعد رؤيةً متسقة حول السياسة تجاه إيران. ففي سوريا، عملت القوات الأمريكية كحصن منيع ضد المقاتلين الإيرانيين والشيعة الذين يعملون على ترسيخ سيطرة نظام الأسد على السلطة. لكن في الشهر الماضي، أعلن ترامب عزمه على إعادة القوات الأمريكية وإخراجها من سوريا. وقال في اجتماع سياسي حاشد يوم 30 آذار/مارس، “سنخرج من سوريا قريباً جداً. فلندع الآخرين يتولون أمرها الآن”.
استهداف الاقتصاد الإيراني.. ولكن إلى أي حد؟
لم تسِر الإدارات الأمريكية المتعاقبة ومسؤولو وزارة الخزانة على خط واحد فيما يتعلق بالهدف النهائي من جهودهم التي استمرت لعقود طويلة حول الضغط على الاقتصاد الإيراني.
فقد تحدث أعضاء إدارة جورج بوش الابن عن خنق طهران اقتصادياً، الأمر الذي سيؤدي إلى تدافع شديد نحو البنوك الإيرانية لسحب [الودائع المصرفية] والريال، وبالتالي زعزعة استقرار النظام. ووصفوا أعمال إيران غير المشروعة ودعمها للإرهاب الدولي بأنها تشكل تهديداً للنظام المالي العالمي.
ونتيجةً لذلك، قام مسؤولو وزارة الخزانة بجولة عالمية وحذروا المصارف والحكومات الأجنبية من القيام بأي تبادل تجاري مع إيران، وإلا فسيواجهون خطر التواطؤ في الأنشطة الإجرامية الدولية.
وكان لهذه الاستراتيجية الأمريكية تأثيراً مهلكاً على الاقتصاد الإيراني. فخلال الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما، خسر الريال نحو ثلثي قيمته، وتم تخفيض مبيعات طهران من النفط إلى أقل من النصف، وانكمش اقتصاد البلاد. لكن الصفقة النووية التي تم التوصل إليها عام 2015 دفعت واشنطن إلى المسار المعاكس تماماً.
فقد أكد مسؤولون كبار في إدارة أوباما أن الهدف النهائي للحرب المالية الأمريكية هو الحصول على تنازلات إيرانية في ما يخص برنامجها النووي، وليس تغيير النظام. وانحسرت الجهود الرامية إلى تثبيط الاستثمار في إيران، على الرغم من استمرار دور الجمهورية الإسلامية في تمويل الإرهاب والمشاركة في الأنشطة الأخرى غير المشروعة.
وفي هذا الصدد، قال وزير الخارجية السابق جون كيري لقناة “سي أن أن” في تموز/يوليو 2015 إنّ “العقوبات حثت الإيرانيين على المجئ إلى طاولة المفاوضات.” وأضاف “لقد قامت إيران تماماً بكل ما هدف إليه الجميع عند وضعهم العقوبات”.
ولم يتضح حتى الآن الهدف النهائي لإدارة ترامب حول سياسة العقوبات الخاصة بإيران، لا سيما إذا انسحب الرئيس الأمريكي من الاتفاق النووي في أيار/مايو. فمن الناحية النظرية، يمكن أن يسعى إلى إعادة فرض جميع العقوبات الاقتصادية المعطلة التي تم إلغاؤها رسمياً عام 2016، والتي شملت عقوبات على البنك المركزي الإيراني وفرض حظر على الصادرات النفطية للجمهورية الإسلامية.
وتستطيع وزارة الخزانة الأمريكية أيضاً استئناف حملة التشهير التي استخدمتها بفعالية لمنع الاستثمارات في إيران. واقترح مسؤولون كبار في إدارة ترامب إمكانية السير في هذا الاتجاه أيضاً. وفي هذا الصدد، قالت وكيلة وزارة الخزانة والمسؤولة في إدارة ترامب عن العقوبات المفروضة على إيران سيغال ماندلبر للكونغرس في كانون الثاني/يناير “لقد أوضحنا في مشاركاتنا، سواء هنا في الولايات المتحدة أم في الخارج، أن الشركات التي تمارس أعمالاً تجارية في إيران ستواجه مخاطر كبيرة”.
العملة الإيرانية في هبوط حاد:
على الرغم من الاتفاق النووي ورفع العقوبات الدولية، لا يزال الاقتصاد الإيراني ضعيفاً للغاية، في رأي المسؤولين الأمريكيين والمحللين الإيرانيين. ففي 28 آذار/مارس، انخفض سعر صرف الريال الإيراني إلى أدنى مستوياته على الإطلاق ليصل إلى 52 ألفاً مقابل الدولار الأمريكي وانخفض بنسبة 37 في المائة خلال العام الماضي.
ووفقاً لهؤلاء المسؤولين والمحللين، يندرج حديث ترامب القاسي عن إيران ضمن الأسباب المؤدية لذلك.
ولكن الأهم من ذلك هو حالة النظام المصرفي في البلاد، إذ يقول بعض المحللين إن ما يصل إلى عشرين مؤسسة مالية كبرى في إيران قد أعلنت إفلاسها في الأشهر الأخيرة. كما أن عمليات إغلاق شركات الاستثمار الخاص، التي تفتقر إلى تأمين المودعين، ساهمت في إطلاق شرارة الاحتجاجات الوطنية التي اجتاحت البلاد في كانون الأول/ديسمبر الماضي.
وفي ظل جميع الاتجاهات التراجعية، توقع “صندوق النقد الدولي” في تقريره من مارس/آذار أن الاقتصاد الإيراني قد ينمو بنسبة 4 في المائة في السنة المالية المنتهية في 20 آذار/مارس 2019. ويمكن أن يساعد انخفاض الريال في جعل الصادرات الإيرانية أكثر قدرةً على المنافسة.
ومع ذلك، خلص “صندوق النقد الدولي” إلى أن ديون الحكومة الإيرانية تضخمت إلى حوالي 50 في المائة من الناتج الاقتصادي للبلاد، وأن أكبر ثلاثة صناديق تقاعد في البلاد أصبحت تفتقر إلى السيولة. وذكر التقرير أن “المدراء أشاروا إلى المخاطر الجمة التي يشكلها ضعف القطاع المصرفي والاختناقات الهيكلية والمخاطر المتزايدة لعدم اليقين.”
ومن الجدير في الذكر أن «الحرس الثوري» الإيراني قد يحاول تحويل مدفوعات الكهرباء العراقية بحسب الباحث “مايكل نايتس”. حيث يقول أن هناك عدم توازن كبير في العلاقات التجارية الوثيقة بين العراق وإيران ، حيث تُرجح كفة الميزان بشكل صارخ لصالح طهران.
وفي هذا الصدد، تقدَّر الصادرات الإيرانية إلى العراق بـ6.5 مليار دولار مقابل صادرات عراقية إلى إيران بقيمة 60 مليون دولار. ولم يسلم قطاع الكهرباء من هذا التفاوت، حيث توفر إيران حالياً نسبة 5.9 بالمائة من إمدادات الطاقة الخاصة بجارتها، وفقاً لوزارة الكهرباء العراقية. وعلى الرغم من أن الإمدادات الإيرانية من الكهرباء أكثر تكلفة من تلك المنتجة محلياً في العراق، إلا أن العرض الإيراني ساعد في دعم قطاع الطاقة الذي يتعافى ببطء في العراق منذ عام 2003.
ويضيف “مايكل نايتس” لم تكن مثل هذه التجارة لتسترعي أنظار المجتمع الخارجي في الظروف العادية طالما تجنب العراق التعامل مع الأطراف الإيرانية الخاضعة للعقوبات. ولكن مع تراجع قيمة العملة الإيرانية، ومع إنفاق «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني أكثر من 6 مليارات دولار سنوياً (وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة) لدعم للنظام السوري، فهناك خطر متزايد من أن تسعى الكيانات الخاضعة للعقوبات إلى الاستحواذ خلسةً على مبالغ طائلة من العملة الأجنبية.
ولذلك فإن مدفوعات العراق القادمة من الكهرباء قد تكون اختباراً رئيسياً لقدرة طهران على توجيه المدفوعات الأجنبية إلى وجهتها الصحيحة، وعلى قدرة المجتمع الدولي على مراقبة مثل تلك التحويلات.
المصدر| المركز الديمقراطي العربي