الكتاب الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) ) سورة الفتح 29
مقـدمة
إن الحمدلله ،نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وبعد.
لقدأعد الله لعباده المتقين جنات تجري من تحتها الأنهار،عرضها السموات والأرض فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ،جاءت بشارتهم عموما بدخول الجنة في صريح قول الله تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) (1)
والصحابة يتفاضلون ،فأفضلهم الخلفاء الراشدون الأربعة :أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم أجمعين، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" (2). ثم باقي العشرة المبشرين بالجنة..
عن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أبوبكر في الجنة ،وعمر في الجنة،وعثمان في الجنة،وعلي في الجنة،وطلحة في الجنة، والزبيربن العوام في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة،وعبدالرحمن بن عوف في الجنة،وأبوعبيدة في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة" (3)
ثم أهل بدر ونعلم ونعتقد أن الله تعالى أطلع عليهم فقال:"اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" (4) وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر.
وبأنه" لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة" بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا ألف وأربمائة وقيل: خمسمائة.
قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)) (5).
ثم المهاجرون عموما ، ثم الأنصار قال عز وجل: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) (6).
ويعتقد أهل السنة والجماعة أنه لا يقطع لأحد بأنه من أهل الجنة إلا ما ثبت فيه النص الصريح.
قال ابن قدامة رحمه في لمعة الاعتقاد: ولانجزم لأحد من أهل القبلة بجنة و لا نار، إلا من جزم له الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن كثير رحمه الله : لا يقطع لمعين بالجنة، إلا الذين نص الشارع على تعيينهم (7).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويرى أهل السنة أن حب الصحابة دين وإيمان وإحسان لكونه امتثالا للنصوص الواردة في فضلهم، وأن بغضهم كفر ونفاق وطغيان لكونه معارضا لذلك.
ونبرأ من كل من وقع في صدره أو لسانه سوءا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشهد الله تعالى على حبهم وموالاتهم والذب عنهم ما استطعنا تحقيقا لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "لا تسبوا أصحابي"(8)، و " الله الله في أصحابي" (9).
وقد يسر الله لنا أن أخرجنا هذه الرسالة لنقف على فضل الصحابة وحرمة المساس بهم ليعرف المسلمون منزلتهم وفضلهم، وسابقتهم في الدين فإنهم كما قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : "إن الله تعالى أطلع في قلوب العباد فاختار محمدا صلى الله عليه وسلم فبعثه برسالته، وانتجبه بعلمه، ثم نظرفي قلوب العباد بعد، فاختار له أصحابا فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه صلى الله عليه وسلم" (10).
لذلك كانوا خيرقدوة ،وأفضل الخلق بعد الأنبياء، فرضي الله عنهم وأرضاهم .
هذا هو محور كتابنا الأول ، ثم يليه الكتاب الثاني " حكم سب الصحابة "لشيخ الإسلام ابن تيمية ، والإمام ابن حجر الهيثمي , والإمام ابن عابدين ،ورد العلامة المحقق محمود شاكر (رحمه الله) علىسب سيد قطب للصحابة.
ولنعلم جميعا أن الطعن في الصحابة هو طعن في النبي –صلى الله عليه وسلم ، فكما يقول أبو زرعة الرازي " إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فاعلم أنه زنديق ،وذلك أن رسول الله حق والقرآن حق ، وما جاء به حق،وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة ، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة " .
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)) (11) .
من هو الصحابي
الصحابي لغة واصطلاحاً
الصحابي في اللغة:
قال الفيروز آبادي: "استصحبه: أي دعاه إلى الصحبة ولازمه" (12) .
وقال الجوهري: "والصحابة بالفتح: الأصحاب، وهي في الأصل مصدر، وأصْحَبْتُهُ الشيء: جعلته له صاحباً، واستصحبته الكتاب وغيره، وكل شيء لاءم شيئاً فقد استصحبه" (13).
وقال أبو بكر بن الطيب: "لا خلاف بين أهل اللغة في أن القول (صحابي) مشتق من الصحبة، وأنه ليس بمشتق من قدر منها مخصوص، بل هو جار على كل من صحب غيره قليلاً كان أو كثيراً، كما أن القول (مكلِّم ومخاطب وضارب) مشتق من المكالمة والمخاطبة والضرب وجار على كل من وقع منه ذلك قليلاً كان أو كثيراً… يقال: صحبت فلاناً حولاً ودهراً وسنة وشهراً ويوماً وساعة، فيوقع اسم المصاحبة بقليل ما يقع منها وكثيره، وذلك يوجب في حكم اللغة إجراء هذا على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة من نهار" (14).
الصحابي اصطلاحاً:
فعن عبد القدوس بن مالك العطار قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وذكر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أهل بدر فقال: "ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرن الذي بعث فيهم، كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه وكانت سابقته معه وسمع منه ونظر إليه" (15).
وقال الإمام البخاري رحمه الله: "من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه" (16).
وقال علي بن المديني: "من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"(17).
وقال سعيد بن المسيب: "الصحابة لا نعدهم إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين"(18).
وتعريف سعيد بن المسيب هذا تعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: "والعمل على خلاف هذا القول؛ لأنهم اتفقوا على عد جمع جم من الصحابة لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا في حجة الوداع" (19).
والتعريف الصحيح المعتمد هو ما قرره الحافظ ابن حجر بقوله: "وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام".
ثم قال شارحا التعريف: "فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى، ويخرج بقيد الإيمان من لقيه كافراً ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى وقولنا: (به) يخرج من لقيه مؤمناً بغيره كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة، ويدخل في قولنا: (مؤمناً به) كل مكلف من الجن والإنس…
وخرج بقولنا: (مات على الإسلام) من لقيه مؤمناً به ثم ارتد ومات على ردته والعياذ بالله… ويدخل فيه من ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت سواء اجتمع به صلى الله عليه وسلم مرة أخرى أم لا وهذا هو الصحيح المعتمد" (20).
تعريف الصحابي عند جمهور المحدثين:
هو من كل لقي النبي صلى الله عليه وسلم يقظة ، مؤمناً به ، بعد بعثته ، حال حياته ، ومات على الإيمان (21).
طريق إثبات الصحبة للرسول صلى الله عليه وسلم:
هناك طريقتين لإثبات الصحبة :
الطريقة الأولى : إثبات الصحبة بالنص – أي بالخبر – و تحته أنواع:
1- القرآن الكريم : و ذلك مثل قوله تعالى (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (22).
فهذا النص يثبت صحبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، حيث استقر الإجماع بأن المعني بالصاحب في هذه الآية هو أبو بكر رضي الله عنه (23) .
2- الخبر المتواتر: وذلك كما في صحبة العشرة المبشرين بالجنة ، فقد تواترت الأخبار بثبوت صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
عن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أبوبكر في الجنة ،وعمر في الجنة،وعثمان في الجنة،وعلي في الجنة،وطلحة في الجنة، والزبيربن العوام في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة،وعبدالرحمن بن عوف في الجنة،وأبوعبيدة في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة" (24).
الطريق الثاني : إثبات الصحبة بعلامة من العلامات :
العلامة الأولى : أن يكون من يدّعي الصحبة قد تولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم غزوة من غزواته ، و ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يؤمّر على غزوة من غزواته إلا من كان من أصحابه (25).
العلامة الثانية : أن يكون المدّعي صحبته ممن أمّره أحد الخلفاء الراشدين على إحدى المغازي في حروب الردة والفتوح (26).
العلامة الثالثة : أن يكون المدعي صحبته قد ثبت أن له ابناً حنكه النبي صلى الله عليه وسلم ، أو مسح على رأسه ، أو دعا له ، فإنه كان لا يولد لأحد مولود إلا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له ، كما أخرجه الحاكم عن عبدالرحمن بن عوف على ما ذكره الحافظ ابن حجر (27)
العلامة الرابعة : أن يكون من يدعي صحبته ممن كان بمكة أو الطائف سنة عشر من الهجرة ، إذ من المعلوم عند المحدثين أن كل من كان بمكة أو الطائف سنة عشر قد أسلم وحج مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، فيكون من الصحابة (28) .
العلامة الخامسة : أن يكون من يدعي صحبته من الأوس أو الخزرج الذين كانوا بالمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد ثبت أنهم دخلوا في الإسلام جميعاً ، و لم يثبت عن أحد منهم أنه ارتد عن الإسلام (29) .
منزلة الصحابة في القرآن والسنة
ذكر الله تعالى فضل صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم في عدة آيات:
قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (30) .
قال أبو عمرو بن الصلاح: قيل : اتفق المفسرون على أنه وارد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (31) .
قال ابن الصلاح : وهذا خطاب مع الموجودين حينئذ.
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (32) .
هؤلاء هم الصحابة الذين قاتلوا أهل الردة وصفهم الله بست صفات:
(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ) (33) هذه انطبقت على الصحابة الذين قاتلوا أهل الردة، فدل على فضلهم وأفضل خصالهم: أن الله يحبهم وهي أول خصلة لهم يحبهم، ومن خصالهم: تواضعهم (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (34)
وشدتهم على الكفار (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (35)
وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) (36) (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا ) هؤلاء المهاجرون (وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا ) هؤلاء الأنصار،فذكر تعالى أن بعضهم أولياء بعض، أي أنهم يوالي بعضهم بعضا، ويحب بعضهم بعضا، وينصر بعضهم بعضا، ثم في آية بعدها:
(وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (37).
وهذا دليل على فضلهم ، ومدحهم الله به ، وكذلك مدحهم بقوله :( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) (38) فالسابقون الأولون هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة والأنصار هم الذين نصروهم وآووهم .
وذكر الله تعالى الجميع بصفة الرضا في قوله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ) (39)
وذكرهم الله أيضا في سورة الحشر بقوله جل شأنه: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (40) ، هؤلاء المهاجرون (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ) (41)، هؤلاء هم الأنصار، وهذا دليل على أنهم حازوا هذه الفضيلة.
وقال عز وجل: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (42)
وقال سبحانه وتعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (43) .
وقالى تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) (44) .
وقال تعالى: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) (45) .
وقال تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) (46) .
وقال تعالى : (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (47) .
وقال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (48) .
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (49) .
وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) (50) .
هذه الآيات أنزلها الله تعالى مثنيا بها على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهدا لهم بأنهم صادقون.
فكيف يكون الطعن عليهم والقدح فيهم؟
فمن طعن فيهم أو سبهم يكون مكذبا لما تضمنته هذه الآيات وتكذيب آيات الله كفر.
وينقل عن القاضي عياض عن أبي عثمان الحداد أنه قال: (جميع من ينتحل التوحيد متفقون على أن الجحد لحرف من التنزيل كفر) (51) .
وقال اين قدامة : (ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفا متفقا عليه أنه كافر) (52) .
السنة المطهرة...
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته" (53).
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".
قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بعدكم قوما يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن (54) " (55) .
وذكر الإمام أحمد حديثا بلفظ: أنتم خير من أبنائكم، وأبناؤكم خير من أبنائهم إلى آخره.
وعن أبي سعيد قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء ، فسبه خالد . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تسبوا أحداً من أصحابي ؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه "(56)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول : وكذلك قال الإمام أحمد وغيره : كل من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أو شهراً أو يوماً أو رآه مؤمناً به ، فهو من أصحابه ، له من الصحبة بقدر ذلك .
فإن قيل: فِلمَ نَهى خالداً عن أن يسب إذا كان من أصحابه أيضاً؟ وقال: " لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه " ؟
قلنا : لأن عبدالرحمن بن عوف ونظراءه من السابقين الأولين ، الذين صحبوه في وقت كان خالد وأمثاله يعادونه فيه وأنفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا ، وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا ، وكلا وعد الله الحسني . فقد أنفردوا من الصحبة بما لم يشركهم فيه خالد ونظراؤه ، ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل . فنهى أن يسب أولئك الذين صحبوه قبله . ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه ، كنسبة خالد إلى السابقين ، وأبعد .
قال - صلى الله عليه وسلم - لعمر : " وما يدريك ، لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " (57).
قيل : " الأمر في قوله : ( اعملوا ) للتكريم . وأن المراد أن كل عمل عمله البدري لا يؤاخذ به لهذا الوعد الصادق " . وقيل : " المعنى أن أعمالهم السيئة تقع مغفورة ، فكأنها لم تقع " .
وقال النووي : " قال العلماء : معناه الغفران لهم في الآخرة ، وإلا فإن توجب على أحد منهم حد أو غيره أقيم عليه في الدنيا . ونقل القاضي عياض الإجماع على إقامة الحد . وأقامه عمر على بعضهم - قدامة بن مظعون قال : وضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - مسطحاً الحد وكان بدرياً " .
وقال ابن القيم : "والله أعلم، إن هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم ، بل يموتون على الإسلام ، وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارف غيرهم من الذنوب ، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرين عليها ، بل يوفقهم لتوبة نصوح استغفار وحسنات تمحو أثر ذلك ، ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم ، لأنه قد تحقق ذلك فيهم ، وأنهم مغفور لهم . ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم ، كما لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض وثوقاً بالمغفرة . فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاه ولا جهاد وهذا محال" .
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" (58) .
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا" (59) .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يأتي الناس زمان فيغيزو فئام من الناس فيقولون: فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فيقولوان: نعم ،فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس.
فيقولون: فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فيقولون: نعم، فيفتح لهم" (60) .
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " النجوم أَمَنَـةُ (61) للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون ، وأنا أَمَنَـةُ لأصحابي ، فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يُوعَدُون ، وأصحابي أَمَةٌ لأمتي ، فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يُوعَدُون "(62) .
قال صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم تاركو لي أصحابي" (63) .
عدالة الصحابة
العدالـة لغـة واصطلاحـاً
العدالة لغة : العدل ضد الجور، يقال عدل عليه فى القضية فهو عادل، وبسط الوالى عدله ومَعْدِلَتَه – بكسر الدال وفتحها - ، وفلان من أهل المَعْدَلَة – بفتح الدال - ، أى : من أهل العدل ، ورجل عدل ، أى : رضا ومقنع فى الشهادة.
والعدالة : وصف بالمصدر معناه ذو عدل، قال تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ([1]) ويقال : رجل عدل ورجلان عدل، ورجال عدل، وامرأة عدل، ونسوة عدل، كل ذلك على معنى رجال ذوو عدل، ونسوة ذوات عدل، فهو لا يثنى، ولا يجمع، ولا يؤنث، فإن رأيته مجموعاً، أو مثنى أو مؤنثاً، فعلى أنه قد أجرى مجرى الوصف الذى ليس بمصدر، وتعديل الشئ تقويمه، يقال عدلته فاعتدل، أى قومته فاستقام([2]) أ0هـ
فمن هذه التعاريف اللغوية يتبين أن معنى العدالة فى اللغة الاستقامة ، والعدل هو المتوسط فى الأمور من غير إفراط فى طرفى الزيادة والنقصان، ومنه قوله تعالى : ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا[([3]) أى عدلاً فالوسط والعدل بمعنى واحد([4])0
والعدالة اصطلاحاً : تنوعت فيها عبارات العلماء من محدثين وأصوليين وفقهاء، إلا أنها ترجع إلى معنى واحد وهو أنها : ملكة أى صفة راسخة فى النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة0
والتقوى ضابطها : امتثال المأمورات، واجتناب المنهيات من الكبائر ظاهراً، وباطناً من شرك أو فسق أو بدعة0
والمروءة ضابطها : آداب نفسية تحمل صاحبها على التحلى بالفضائل , والتخلى عن الرذائل ، وترجع معرفتها إلى العرف 0
وليس المراد بالعرف هنا سيرة مطلق الناس بل الذين نقتدى بهم .
ولا تتحقق العدالة فى الراوى إلا إذا اتصف بصفات خمسة : الإسلام , والبلوغ والعقل , والسلامة من أسباب الفسق , وخوارم المروءة ([5])0
وليس المقصود من العدل أن يكون بريئاً من كل ذنب ، وإنما المراد أن يكون الغالب عليه التدين ، والتحرى فى فعل الطاعات0
وفى ذلك يقول الإمام الشافعى : " لو كان العدل من لا ذنب له لم نجد عدلاً، ولو كان كل مذنب عدلاً لم نجد مجروحاً ، ولكن العدل من اجتنب الكبائر؛ وكانت محاسنه أكثر من مساويه " ([6])0
ويعبر أبو يوسف عن هذا الإتجاه حين يقول : "من سلم أن تكون منه كبيرة من الكبائر التى أوعد الله تعالى عليها النار ، وكانت محاسنه أكثر من مساوئه فهو عدل "([7])0
ونخلص مما سبق فيما يخص بتعريف الصحابة y أن المنافقين الذين كشف الله ورسوله – سترهم ، ووقف المسلمون على حقيقة أمرهم ، والمرتدين الذين ارتدوا فى حياة النبى وبعد وفاته ، ولم يتوبوا ويرجعوا إلى الإسلام ، وماتوا على ردتهم ، هم بمعزل من شرف هذه الصحبة ، وبالتالى بمعزل عن أن يكونوا من المرادين بقول جمهور العلماء والأئمة إنهم عدول ، وفى تعريف العلماء للصحبة ما ينفى عنها ؛ هؤلاء وأولئك 0
ومعنى عدالة الصحابة : " أنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله e ، لما اتصفوا به من قوة الإيمان، والتزام التقوى، والمروءة، وسمو الأخلاق والترفع عن سفاسف الأمور0
وليس معنى عدالتهم أنهم معصومون من المعاصى أو من السهو أو الغلط فإن ذلك لم يقل به أحد من أهل العلم0
ومما ينبغى أن يعلم أن الذين قارفوا إثماً ثم حدوا - كان ذلك كفارة لهم - وتابوا وحسنت توبتهم ، وهم فى نفس الوقت قلة نادرة جداً ؛ لا ينبغى أن يغلب شأنهم وحالهم على حال الألوف المؤلفة من الصحابة الذين ثبتوا على الجادة والصراط المستقيم ، وجانبوا المآثم ، والمعاصى ما كبر منها وما صغر، وما ظهر منها وما بطن ، والتاريخ الصادق أكبر شاهد على هذا " ([8]) أ0هـ0
ويؤكد ما سبق الإمام الأبيارى([9]) بقوله : "وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم ، واستحالة المعصية عليهم ، وإنما المراد : قبول روايتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية ، إلا أن يثبت ارتكاب قادح ، ولم يثبت ذلك ولله الحمد ! فنحن على استصحاب ما كانوا عليه فى زمن رسول الله e ، حتى يثبت خلافه ، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير، فإنه لا يصح ، وما صح فله تأويل صحيح " ([10]) أهــ 0
والعدالة التى نثبتها لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم - لم نعطها هبة لهم من عند أنفسنا - فنحن لا نملك ذلك، وإنما العدالة ثابتة لهم جميعاً بنص الكتاب العزيز, والسنة المطهرة - سواء منهم من تقدم إسلامه ومن تأخر، ومن هاجر ومن لم يهاجر، ومن اشترك فى الغزوات ومن لم يشترك ، ومن لابس الفتنة ومن لم يلابسها([11])0 فهذه العدالة لهم جميعاً تضافرت عليها الأدلة من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة0
وهي عند أهل السنة من مسائل العقيدة القطعية، أو مما هو معلوم من الدين بالضرورة.
أولا.. القرآن الكريم:
الآية الأولى:
يقول الله عز وجل: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً} (سورة الفتح: 18).
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: كنا ألفا وأربعمائة (صحيح البخاري: كتاب المغازي -باب غزوة الحديبية- حديث [4154] فتح الباري: 7/507).
فهذه الآية ظاهرة الدلالة على تزكية الله لهم، تزكية لا يخبر بها، ولا يقدر عليها إلا الله. وهي تزكية بواطنهم وما في قلوبهم، ومن هنا رضي عنهم. ((ومن رضي عنه تعالى لا يمكن موته على الكفر؛ لأن العبرة بالوفاة على الإسلام. فلا يقع الرضا منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام)) (الصواعق المحرقة: ص 316 ط). ومما يؤكد هذا ما ثبت في صحيح مسلم من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ((لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد؛ الذين بايعوا تحتها)) (صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أصحاب الشجرة. . حديث [2496]. صحيح مسلم 4/1943.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((والرضا من الله صفة قديمة، فلا يرضى إلا عن عبد علم أن يوافيه على موجبات الرضا -ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً- فكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة، وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح؛ فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له. فلو علم أنه يتعقب ذلك بما سخط الرب لم يكن من أهل ذلك)) (الصارم المسلول: 572، 573).
وقال ابن حزم: ((فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم، ورضي عنهم، وأنزلا السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم أو الشك فيهم البتة)) (الفصل في الملل والنحل: 4/148).
الآية الثانية:
قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ترااهم رُكعاً سُجدا يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مَثَلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سُوقه يُعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً} (سورة الفتح: 29).
قال الإمام مالك: ((بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة -رضي الله عنهم- الذين فتحوا الشام، يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا. وصدقوا في ذلك؛ فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظهما وأفضلها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى هنا: {ذلك مثلهم في التوراة}. ثم قال: {ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه} أي فراخه. {فآزره} أي: شده {فاستغلظ} أي: شب وطال. {فاستوى على سوقه يعجب الزراع} أي فكذلك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آزروه وأيدوه ونصروه، فهو معهم كالشطء مع الزراع ليغيظ بهم الكفار)) (الاستيعاب لابن عبد البر 1/6 بحاشية الإصابة، عن ابن القاسم. وتفسير ابن كثير: 4/204).
وقال ابن الجوزي: ((وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور)) (زاد المسير: 4/204).
الآية الثالثة:
قوله تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم} إلى قوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} (سورة الحشر: 8 - 10).
يبين الله عز وجل في هذه الآيات أحوال وصفات المستحقين للفئ، وهم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: {للفقراء المهاجرين}.
والقسم الثاني: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم}.
والقسم الثالث: {والذين جاءوا من بعدهم}.
وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة، أن الذي يسب الصحابة ليس له من مال الفئ نصيب؛ لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء -القسم الثالث- في قولهم: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} الآية (تفسير ابن كثير: 4/339).
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((الناس على ثلاث منازل، فمضت منزلتان، وبقيت واحدة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. قال: ثم قرأ: {للفقراء المهاجرين} إلى قوله: {رضوانا} فهؤلاء المهاجرون. وهذه منزلة قد مضت {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم} إلى قوله: {ولو كان بهم خصاصة}. قال: هؤلاء الأنصار. وهذه منزلة قد مضت. ثم قرأ: {والذين جاءوا من بعدهم} إلى قوله: {ربنا إنك رءوف رحيم} قد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. يقول: أن تستغفروا لهم)) (الصارم المسلول: 574، والأثر رواه الحاكم 2/3484 وصححه ووافقه الذهبي).
وقالت عائشة رضي الله عنها: ((أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فسبوهم)) (رواه مسلم في كتاب التفسير-حديث [3022] صحيح مسلم 4/2317).
قاال أبو نعيم: ((فمن أسوأ حالاً ممن خالف الله ورسوله وآب بالعصيان لهما والمخالفة عليهما. ألا ترى أن الله تعالى أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن يعفو عن أصحابه ويستغفر لهم ويخفض لهم الجناح، قال تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} (سورة آل عمران: 159). وقال: {واخفض جناحك لمن تبعك من المؤمنين} (سورة الشعراء: 215).
فمن سبهم وأبغضهم وحمل ما كان من تأويلهم وحروبهم على غير الجميل الحسن، فهو العادل عن أمر الله تعالى وتأديبه ووصيته فيهم. لا يبسط لسانه فيهم إلا من سوء طويته في النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته والإسلام والمسلمين)) (الإمامة: ص 375-376. لأبي نعيم تحقيق د. علي فقهي).
وعن مجاهد، عن ابن عباس، قال: ((لا تسبوا أصحاب محمد، فإن الله قد أمر بالاستغفار لهم، وقد علم أنهم سيقتتلون)) (الصارم المسلوم: 574. وانظر منهاج السنة 2/14 والأثر رواه أحمد في الفضائل رقم (187، 1741) وصحح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية، ونسب الحديث لابن بطة منهاج السنة 2/22).
الآية الرابعة:
قوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} (سورة التوبة: 100).
والدلالة في هذه الآية ظاهرة. قال ابن تيمية: (فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان. ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان) (الصارم المسلول: 572). ومن اتباعهم بإحسان الترضي عنهم والاستغفار لهم.
الآية الخامسة:
قوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتوا وكلا وعد الله الحسنى} (سورة الحديد: 11).
والحسنى: الجنة. قال ذلك مجاهد وقتادة (تفسير ابن جرير: 27/128).
واستدل ابن حزم من هذه الآية بالقطع بأن الصحابة جميعاً من أهل الجنة لقوله عز وجل: {وكلا وعد الله الحسنى} (الفصل: 4/148، 149).
الآية السادسة:
قوله تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم} (سورة التوبة: 117).
وقد حضر غزوة تبوك جميع من كان موجوداً من الصحابة، إلا من عذر الله من النساء والعجزة. أما الثلاثة الذين خُلفوا فقد نزلت توبتهم بعد ذلك.
ثانياً.. السنة المطهرة :
الحديث الأول:
عن أبي سعيد، قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شئ، فسبه خالد. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تسبوا أحداً من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل اُحُد ذهباً ما أدرك مُد أحدِهم ولا نصِيفَه)) (رواه البخاري: كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- باب قول النبي لو كنت متخذاً خليلاً- حديث/ 3673. ومسلم: كتاب فضائل الصحابة -باب تحريم سب الصحابة- حديث/ 2541. صحيح مسلم 4/1967م. والنصيف هو النصف. والسياق لمسلم).
قال ابن تيمية في الصارم المسلول: وكذلك قال الإمام أحمد وغيره: كل من صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة أو شهراً أو يوماً أو رآه مؤمناً به، فهو من أصحابه، له من الصحبة بقدر ذلك.
فإن قيل: فلِمَ نَهى خالداً عن أن يسب أصحابه إذا كان من أصحابه أيضاً؟ وقال: ((لو أن أحدكم انفق مثل اُحُد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه))؟ قلنا: لأن عبد الرحمن بن عوف ونظراءه من السابقين الأولين، الذين صحبوه في وقت كان خالد وأمثاله يعادونه فيه، وأنفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا، وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى. فقد انفردوا من الصحبة بما لم يشركهم فيه خالد ونظراؤه، ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل. فنهى أن يسب أولئك الذين صحبوه قبله. ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه، كنسبة خالد إلى السابقين، وأبعد (الصارم المسلول: ص576).
الحديث الثاني:
قال -صلى الله عليه وسلم- لعمر: ((وما يدريك، لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) (صحيح البخاري فتح الباري: حديث 3983. وصحيح مسلم: حديث 2494).
قيل: ((الأمر في قوله: ((اعملوا)) للتكريم. وأن المراد أن كل عمل البدري لا يؤاخذ به لهذا الوعد الصادق)). وقيل: ((المعنى إن أعمالهم السيئة تقع مغفورة، فكأنها لم تقع)) (معرفة الخصال المكفرة لابن حجر العسقلاني: ص 31).
وقال النووي: ((قال العلماء: معناه الغفران لهم في الآخرة، وإلا فإن توجب على أحد منهم حد أو غيره أقيم عليه في الدنيا. ونقل القاضي عياض الإجماع على إقامة الحد. وأقامه عمر على بعضهم -قدامة بن مظعون قال: وضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- مسطحاً الحد، وكان بدرياً)) (صحيح مسلم بشرح النووي: 16/56، 57).
وقال ابن القيم: ((والله أعلم، إن هذا الخطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم، بل يموتون على الإسلام، وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرين عليها، بل يوفقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو أثر ذلك، ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم؛ لأنه قد تحقق ذلك فيهم، وأنهم مغفور لهم. ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم، كما لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض وثوقاً بالمغفرة. فلو كانت حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة ولا جهاد وهذا محال)) (الفوائد لابن القيم: ص 19).
الحديث الثالث:
عن عمران بن الحصين رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذيم يلونهم)). قال عمران: ((فلا أدري؛ أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً)) (البخاري: حديث [3650]. ومسلم: حديث [2535]. وهذا سياق البخاري مختصراً).
الحديث الرابع:
عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((النجوم أمَنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يُوعَدُون،وأصحابي أمَنَةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يُوعَدُون)) (صحيح مسلم: حديث [2531]. والأمنة هي الأمان).
الحديث الخامس:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أكرموا أصحابي؛ فإنهم خياركم)) (رواه الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم بسند صحيح. انظر مشكاة المصابيح: 3/1695. ومسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر: 1/112). وفي رواية أخرى: ((احفظوني في أصحابي)) (رواه ابن ماجة: 2/64. وأحمد: 1/81. والحاكم: 1/114. وقال: صحيح ووافقه الذهبي وقال البوصيري: إسناد رجاله ثقات -زوائد ابن ماجة 3/53 وانظر بقية كلامه).
الحديث السادس:
عن واثلة يرفعه: ((لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأي من رآني وصاحبني)) (رواه ابن أبي شيبة 12/178، وابن أبي عاصم: 2/630. في السنة ومن طريق المصنف، ورواه الطبراني في الكبير 22/85. وعنه أبو النعيم في معرفة الصحابة 1/133، وقد حسنه الحافظ في الفتح 7/5، وقال الهيثم في الجمع 10/20: رواه الطبراني من طرق رجال أحدها رجال الصحيح).
الحديث السابع:
عن انس رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغض الانصار )) ( البخاري 7 / 113 ، ومسلم 1 / 85 ) .
وقال في الأنصار كذلك : (( لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق )) ( البخاري 7 / 113 ومسلم 1 / 85 من حديث البراء رضي الله عنه ) .
وهناك أحاديث أخرى ظاهرة الدلالة على فضلهم بالجملة . اما فضائلهم على التفصيل فكثيرة جدا . وقد جمع الإمام أحمد رحمه الله في كتابه (( فضائل الصحابة )) مجلدين ، قريبا من ألفي حديث وأثر . وهو أجمع كتاب في بابه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ