كان الإيرانيون يتوقعون بالطبع مواقف ترامب المتشددة إزاء سياساتهم، بعدما دأب على التصريح بها طوال حملته الانتخابية، ثم بعد وصوله إلى البيت الابيض، لكنهم ظلوا يراهنون على إمكان تراجعه بسبب ضغوط داخلية وخارجية، إلى أن أعلن استراتيجيته رافضاً التصديق على التزام طهران الاتفاق النووي، وملوّحاً بالانسحاب منه ما لم يتم تعديله.
وعلى رغم أنهم شعروا بقلق كبير من تصنيفه «الحرس الثوري» ضمن قائمة الكيانات الداعمة للإرهاب، وما يعنيه ذلك من فرض عقوبات عليه لاحقاً، إلا أن ما أثار استياءهم الفوري كان استخدام الرئيس الأميركي مصطلح «الخليج العربي».
تقول مجلة «تايم» الأميركية أن «الكلمتين اللتين استخدمهما ترامب أثارتا غضب الإيرانيين على اختلاف انتماءاتهم، متديّنين كانوا أو ليبراليين، موالين للنظام أو معارضين له، قوميين أو ثوريين، لأن أيّا منهم لا يمكنه هضم تسمية اللسان المائي الذي يفصل إيران عن جيرانها العرب بأي اسم آخر غير الخليج الفارسي». وتضيف أنه «بعد دقائق فقط من الخطاب، بث التلفزيون الإيراني الرسمي شريط أخبار يشير إلى تسمية الخليج العربي التي أطلقها ترامب وإلى وصفه الإيرانيين بالأمة الإرهابية. وركزت وكالات الأنباء الحكومية وشبه الحكومية والمواقع الإلكترونية والصحف جميعها على هذه الإهانة المزدوجة».
ولم يتأخر الرئيس الإيراني روحاني في كلمة متلفزة في السخرية من «ضعف معلومات ترامب الجغرافية»، فيما زار ملايين الإيرانيين حسابه الرسمي على «إنستغرام» للتعبير عن غضبهم.
بالطبع، لا يتعلق الأمر بخلاف على التسمية، بل بمحاولة إيران إكساب الاسم القديم للخليج جسداً لم يعد له، عندما يتحدث مسؤولوها عن استعادة مجد «فارس» وكيف تتوسع «الإمبراطورية» لتشمل العراق وسورية ولبنان.
وأذكر أنه في عام 1987، تلقت صحيفة عربية مرموقة في بيروت رسالة وقحة من السفارة الإيرانية تجرأت فيها على دعوتها إلى استخدام مصطلح «الخليج الفارسي» بدلاً من الخليج العربي، وأرفقت طلبها بخرائط قديمة يونانية وفارسية، تعود إلى حقب تاريخية كان العرب خلالها أحد الشعوب المستباحة. وكان لبنان في تلك الفترة يتحول تدريجاً مرتعاً وساحة للاستخبارات الإيرانية وجهازها الجديد «حزب الله»، بموافقة نظام حافظ الأسد، وكانت عمليات خطف الأجانب التي يقوم بها العملاء الإيرانيون تحت مسميات مختلفة، في أوجها. وجاء رد فعل السفارة على عدم استجابة الصحيفة طلبها الغريب والمستهجن، زيارات قام بها شبان ملتحون يتحدثون بعربية ركيكة إلى مبنى الصحيفة وسؤالهم عن بعض العاملين فيها.
مشكلة إيران تكمن في عنصريتها التي تلبس اليوم قناع «الثورة الإسلامية»، وتظهر جلية في سعيها إلى تعميم نموذج الحكم فيها على دول المنطقة، وفي رفضها الإقرار بأن التاريخ الذي انقضى لن يعود، وأن الإمبراطوريات تظهر وتزدهر ثم تزول، وأن الوقائع أقوى من الخرافات، والحاضر أقوى من الماضي. وكثيرون يعرفون مدى صفاقة الإيرانيين وصلفهم منذ قيام جمهوريتهم الإسلامية، عندما يتعلق الأمر بالسيادة على الخليج العربي، وهم لم يتورّعوا عن احتلال جزر إماراتية ثلاث بحجة التاريخ نفسه.
والذين ينبرون اليوم لتحذير الولايات المتحدة من توتير العلاقة مع ايران، إنما يتجاهلون قصداً الحقائق الراسخة عن سلوكها، ولا يفعلون سوى الدفاع عن صفقات وعقود محتملة مع طهران.
ونسأل بدورنا: لماذا لا يشمل «التوتر» الذي يتحدثون عنه ما يحصل في المنطقة العربية، وكيف يشذ عنه التدخل الإيراني في العراق وسيطرة طهران الواسعة على القرار السياسي والعسكري في بغداد، وكذلك التدخل العسكري الإيراني في سورية وإرسال ميليشيات طهران المذهبية للدفاع عن نظام الأسد المتهاوي، وأيضاً إمساك ربيبها «حزب الله» بالوضع في لبنان وتشكيله دولة داخل الدولة أقوى منها وتديرها؟ وماذا يُسمى ما تفعله إيران في اليمن، من تسليح وتدريب لأطراف مذهبية بهدف تفكيك وحدته وتهديد جيرانه؟ أليس هذا توتراً وحرباً واعتداءً وانتهاكاً للحدود والكيانات، يستحق رداً؟
الحياة