شكل إعلان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الانسحاب من خط الحدود اللبنانية السورية في منطقة بعلبك الهرمل، إيذانا بتطور جديد في تعامل حزب الله مع التطورات الجارية في سوريا ومحيطها، فتسليم مواقع حزب الله العسكرية على جزء من خط الحدود الشرقية للجيش اللبناني، مهد له حزب الله بمقدمات وصفت ما سيعلنه نصرالله بأنه موقف مهم، وتركز هذا التمهيد في دائرة محازبيه ومناصريه الذين تلقوا في وسائل التواصل المختلفة عشية الخطاب الذي ألقاه في الذكرى السنوية لاغتيال القيادي في حزب الله مصطفى بدرالدين قبل أسبوع، رسالة مفادها ترقبوا القرار المهم الذي سيعلنه الأمين العام.
القرار لم يكن في إنهاء اللغط الذي دار حول عملية اغتيال بدرالدين، عبر تقديم نتائج التحقيقات في ما خفي من عملية الاغتيال التي جرت في محيط مطار دمشق، ولا في طي ملف الشكوك التي تدور حول هذه العملية التي قيل إن بدرالدين ذهب ضحية تصفيات داخلية، تجاوز نصرالله كل هذه الشكوك التي تشغل بال جزء من جمهوره، وذهب مباشرة إلى مخاطبة هذا الجمهور بعبارة “أنجزنا المهمة” وهي العبارة التي صارت تعويضا عن عبارة سابقة واختفت، كان يرددها نصرالله في سنوات سابقة وفي بداية تدخله في سوريا وهي: كما وعدتكم بالنصر دائما أعدكم بالنصر مجددا.
الأخيرة هذه التي غابت عن خطابات نصرالله منذ مدة بعيدة، تعكس إدراك اللبنانيين عموما وجمهور حزب الله على وجه التحديد أن الأزمة السورية لن تجلب نصرا لحزب الله، وقصارى ما يطمح إليه هؤلاء هو التخلص من الرمال السورية بأقل ما يمكن من خسائر وأضرار.
“أنجزنا المهمة” لم تنطوِ على إعلان نصرالله الانسحاب من سوريا، ولكن لا يمكن فصلها عن كونها تمهيدا يستهدف الإشارة إلى عنوان وجوده العسكري في سوريا من دون أن يحدد نصرالله تعريفا لإنجاز المهمة، فهو مفهوم مطاطي وقابل لتفسيرات مختلفة تتيح لحزب الله أن يحدد مضمونه بحسب ما تقتضي الظروف.
هذه المرة ربط نصرالله هذا المفهوم بأن سلم الجيش اللبناني مواقع على الحدود مع سوريا في مساحة محددة، ولكن أبقى على وجوده في سوريا وعلى انتقاله السلس عبر هذه الحدود في الاتجاهين، لقد سلم الدولة اللبنانية مواقع عسكرية له على هذه الحدود، لكنه أبقى على وجوده داخل سوريا وفي المقلب اللبناني من هذه الحدود، بدا الأمر في واقعه الفعلي، تحميل الجيش اللبناني مسؤولية هذه الحدود، من دون أن يلتزم حزب الله بأي شرط من شروط السيادة وقواعدها في لبنان.
إذن هو انسحاب بغاية تحضير نفسي للجمهور القلق من أفق مفتوح لا نهاية له للأزمة السورية ولتورط حزب الله فيها. تحضير مفاده أن طريق العودة إلى لبنان فتحت، والأهم أنه رسالة سياسية إلى من يعنيهم الأمر دوليا وإقليميا، تقول إن حزب الله ليس طرفا معرقلا للتفاهمات الجارية من تحضير لمناطق آمنة، لكنه يشير إلى أنه متخوف من أن يكون كبش فداء لهذه التفاهمات، ويعلن بطريقته الملتبسة احترامه للحدود الدولية.
علما أن هذه الحدود التي انسحب منها حزب الله تخضع إلى مراقبة من قبل بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية اللتين أخذتا على عاتقهما منذ سنوات توفير شروط مراقبة ميدانية وتقنية عبر اتفاقيات عسكرية عقدتاها مع الجيش اللبناني، أتاحت تأمين محطات مراقبة تشرفان عليها ويديرها الجيش اللبناني مباشرة.
البقاء في سوريا مستمر حتى اليوم، لكن من دون أفق انتصارات يعد حزب الله مناصريه بتحقيقها، وإنجاز المهمة صار رهن الاتفاقيات الإقليمية والدولية، وحزب الله ليس إلا طرفا تابعا لإيران وقد نذر نفسه لأن يكون ورقة في يد قيادتها، وبالتالي فإنه ربط مصيره إلى حدّ بعيد بمستقبل النفوذ الإيراني في سوريا، ومن هنا يصبح قرار العودة أو البقاء شأنا تقرره المصالح الإيرانية، بعدما طويت “أحلام النصر” الإيراني في سوريا، وبات الحلم أن تبقى العلاقة وثيقة بروسيا التي تربعت على عرش حلفاء بشار الأسد، فإيران وكذا حزب الله باتا عنصرين تابعين ومنضبطين بسقف روسيا، ويدركان أن ما تبقى لهما هو الدرع الروسي في مواجهة السياسة الأميركية وهجومها الاستراتيجي في عهد الإدارة الجديدة التي ساوت، إلى حدّ بعيد، بين النفوذ الإيراني ووجود داعش في المنطقة العربية
الأحلام الإيرانية تتهاوى ومعها يتراجع دور ونفوذ حزب الله الذي يبدي إلى حدّ بعيد ليونة تجاه الخطرين اللذين طالما بشر بمواجهتهما منذ نشأته، أي أميركا وإسرائيل، فعلى الرغم من العقوبات الأميركية المتدرجة ضده، ورغم الضربات الإسرائيلية المتكررة لبعض مواقعه في سوريا، فإن لهجة العداء تتركز لدى نصرالله ضد المملكة العربية السعودية، فنبرة الصوت هادئة تجاه أميركا وإسرائيل ولا تنطوي على أي تهديد، بينما تعلو وترتفع حينما يتناول الموقف السعودي.
ففي خطابه في يوم 2 مايو، ذكرى يوم الجريح، قال حسن نصرالله كلاما يمكن أن يندرج في إطار الفضيحة السياسية، إذ أكد أن المجتمع الذي يقوده أو يتحدث عنه لم يكن مقتنعا بقتال الاحتلال الإسرائيلي بين 1982 و2000 كقناعته اليوم، بغرقه في الحرب التي أقل ما يمكن أن يقال فيها إنها حرب أهلية بسمات مذهبية وطائفية.
وهذا النص الحرفي لما قاله الأمين العام لحزب الله “أود أن أقول أمرا اليوم، إننا خلال 6 إلى 7 سنوات لم أقدّم خطاباً تعبوياً، أنا أقوم بخطاب تحليلي، توصيفي، نحن كنا نقاتل إسرائيل منذ العام 1982 حتى 2000 كان لدينا يومياً خطاب تعبوي، نحن غير محتاجين في سوريا لخطاب تعبوي لأن البصيرة والوعي والقناعة وسلامة وصوابية الخيارات عند مجتمعنا وشبابنا ومقاتلينا وعائلاتهم واضحة إلى حد لا يحتاج إلى خطاب تعبوي”.
لا يمكن أن يكون هذا الخطاب عفويا بل هو مقصود ومدروس ولا سيما أنه خطاب غير صحيح وينطوي على محاولة لإلباس المشروع الإيراني في سوريا والمنطقة عموما شرعية شيعية، ولكن الأهم من كل ذلك هو أن نصرالله يريد أن يقول للأميركيين والإسرائيليين إن عداء جمهورنا يتركز بالدرجة الأولى على أعدائنا في الداخل الإسلامي والعربي، وأن هذه القناعة تتركز في المجتمع الذي سهل عليه أن يقاتل أعداءه من السوريين أكثر من مشروع قتال إسرائيل وبالتالي الغرب.
ترسيخ الانقسام المذهبي وتعميقه في منطقتنا يبدوان الفرصة الوحيدة المتاحة أمام المشروع الإيراني لكي يجد مبررا لدوره ونفوذه، فالليونة حيال السياسات الأميركية والإسرائيلية التي تقابل بها إيران ما تسميهما بالشيطانين، لا يقابلها إلا إعلاء من وتيرة الصراعات الأهلية في العالم العربي عبر المزيد من الاستثمار الدموي والطائفي فيه من قبل القادة الإيرانيين وأتباعهم في المنطقة.
(السورية نت)