لا يختلف المتابعون للشأن التركي على أن "المسألة الكُردية" هي أكبر مشكلات تركيا، منذ تأسيسها عام 1924 وحتى اليوم. فقد رأى مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، أن التنوع العرقي والإثني الذي تميّزت به الدولة العثمانية وقتها كان أحد أسباب سقوطها، وبالتالي، يجب على الجمهورية التركية الوليدة مواجهة ذلك الأمر لتجنب المصير نفسه، و"تطهير" البلاد من القوميات الأخرى، وعلى رأسهم الأرمن والكُرد.
غير أن جرائم تركيا خلال الآونة الأخيرة، في إطار السياسة الممنهجة الهادفة لقمع الكُرد، تخطّت الحدود الإقليمية للدولة التركية، إلى داخل حدود كل من سوريا وإيران، ودول إقليمية أخرى في الشرق الأوسط، فباتت بمثابة "حرب عابرة للحدود" بمعنى الكلمة.
أخذت هذه الجرائم طابع "الحرب المفتوحة"، بما حملته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وبما يُرتكب خلالها بشكل شبه يومي من جرائم حرب، وقصف للمدنيين والبنية التحتية في شمال سوريا، وغيرها من جرائم ترقى لكونها "إبادة جماعية"، تجري في وضح النهار على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وسط صمت دولي مطبق، وكأن الكُرد يعيشون في كوكب آخر غير الكوكب الأرضي!
وعشية الانتخابات التركية التي أُجريت في مايو/أيار من العام الماضي 2023، عملت حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان على تبني خطاب شعبوي مضلل يثير الانقسام الشديد ضد أحزاب المعارضة، حيث اتهمت الحكومة حزب "الشعب الجمهوري" بدعم "حزب العمال" الكردستاني، ووزعت فيديو مزيفًا أظهر كمال كيليتشدار أوغلو، أحد قيادات "الشعب الجمهوري"، في لقطات مع قادة من "حزب العمال".
كان الهدف غير المعلن من لجوء أردوغان إلى مثل هذا الترويج المبتذل لعلاقة قديمة، جمعت يومًا منافسه في الانتخابات بالقيادات الكردستانية، هو شدّ أزر الناخب التركي الشوفيني المتعصب، واستقطاب الاتجاهات الفاشية نحو خطاب يعادي أي أفق مستقبلي للسلام مع الكُرد.
وفشلت محاولات المعارضة التركية في الردّ على مزاعم حزب "العدالة والتنمية"، أو الإشارة إلى حقيقة أن أردوغان نفسه كان يسعى للتفاوض مع "حزب العمال الكردستاني" إبان عملية السلام الكردية التركية.
والحقيقة التي لا يعلمها الكثير من المتابعين للشأن التركي، أنه في نهاية عام 2012، تحدثت تقارير إعلامية عن لقاءات مكثفة بين الاستخبارات التركية وبعض قادة حزب العمال الكردستاني في العاصمة النرويجية أوسلو؛ الأمر الذي نفاه المتحدث باسم الحكومة التركية آنذاك نائب رئيس الوزراء بولنت أرينتش. لكن ما لبث أن عاد رئيس الوزراء التركي - وقتها - رجب طيب أردوغان ليعلن صحة ما سبق تداوله عبر وسائل الإعلام.
وقتها، أقر أردوغان بوجود محاولات لبسط "أرضية سلام" بين الحكومة وقادة حزب العمال الكردستاني، خلال لقاء مع التلفزيون الرسمي التركي بتاريخ 28 ديسمبر/كانون الأول 2012، مشيرًا إلى وجود لقاءات مباشرة بين الحكومة التركية وحزب العمال، لطي صفحة النزاع المسلح وبدء صفحة جديدة.
في ذلك الوقت، استطاعت الحكومة التركية أن تقرّ عبر البرلمان حزمة إصلاحات ديمقراطية استهدفت منح بعض الحقوق للكُرد، وتضمنت إمكانية تعلّم اللغة الكردية، وحق التحدث باللغة الكردية في المحاكم والمؤسسات الرسمية والمناطق العامة، وحق ممارسة الدعاية السياسية الانتخابية باللغة الكردية، وإقامة عدد من المشروعات لتوفير فرص العمل في المناطق ذات الأغلبية الكردية، كذلك أعيد إطلاق الأسماء الكردية القديمة لبعض القرى في شرق وجنوب شرقي تركيا.
غير أنه سرعان ما انقلب الساسة الأتراك على عملية السلام، وعاد العداء القديم للكُرد، لكي يطل برأسه من جديد، ولم تلبث الأمور في الدولة التركية أن عادت إلى العداء المستحكم.
تفكيك المشروع الكردي
لا جدال أن هناك شعورًا عامًا بالغضب والسخط في أنحاء العالم العربي كافة، تجاه ما تقوم به تركيا من مذابح ضد الكُرد في سوريا والعراق، حيث نطالع يوميًا تركيز أنقرة في حملتها العسكرية ضد "حزب العمال الكردستاني" في العراق، بضربات طائرات مسيّرة ضد إقليم كردستان العراق.
وكذلك الغارات اليومية الدموية، والتي تجري بشكل متزايد مؤخرًا في شمال شرق سوريا ضد "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، حيث دمرت الغارات التركية البنية التحتية الحيوية في المنطقة برمتها وقطعت المياه والكهرباء عن الملايين من العرب والكُرد.
وتواصل تركيا منذ سنوات طويلة احتلال أجزاء واسعة من الأراضي في شمال سوريا، فيما انتهك وكلاؤها السوريون من فصائل المعارضة المسلّحة وعلى رأسهم ما يُسمى "الجيش الوطني" حقوق المدنيين على نطاق واسع.
في الأراضي التي تحتلها تركيا في شمال سوريا، ارتكبت فصائل مختلفة من "الجيش الوطني" السوري والشرطة العسكرية، وهي قوة أنشأتها الحكومة السورية المؤقتة للحد من انتهاكات الفصائل، انتهاكات عديدة ضد عشرات الأشخاص، مع الإفلات من العقاب. وشملت هذه الانتهاكات المستمرة، الاعتقال والاحتجاز التعسفيين، والإخفاء القسري، والتعذيب وسوء المعاملة، والعنف الجنسي والاغتصاب.
وبذلك، باتت حالات القمع والاستهداف والانتهاكات التركية لحقوق الإنسان وشنّها حربًا مفتوحة سياسية وأخرى عسكرية على الكُرد تتخطى الحدود التركية وتأخذ طابعًا إقليميًا منذ التسعينيات، إلّا أن تصاعد وتيرتها مع احتلالها لأجزاء من المناطق الكردية السورية وإنشائها لقواعد ونقاط عسكرية ثابتة في إقليم كردستان العراق، يشي بإمكانية استدامة الحرب واشتدادها في فترات متقاربة، فضلًا عن أن طبيعة الاستهدافات التركية في سوريا باتت تتسم بأنها جرائم حرب تتكثّف فيها كل ملامح "حرب إبادة جماعية".
ويتزامن هذا الاستخدام التركي المكثف لـ "القوة الباطشة" ضد الكُرد، مع سياقات إقليمية ودولية ترى أنقرة أنها تشجع على استخدام هذا الخيار العسكري، ومن بينها العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، حيث لا ينفصل اتجاه تركيا لتوظيف القوة الصلبة ضد الكُرد، عن محاولتها توظيف انشغال الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، بالحرب على غزة.
كما يرتبط توظيف "القوة الخشنة" بسعي أنقرة إلى تفكيك المشروع الكردي في الإقليم، سواء من خلال منع الكرد في العراق وسوريا من إقامة دولة أو إفشال آلية نظام الإدارة الذاتية التي يتبناها كُرد سوريا في شمال شرق البلاد، باعتبار أن ذلك يمثل تهديدًا للأمن القومي التركي.
تكميم أفواه الصحافيين الكُرد
لم يسلم الصحافيين الكُرد من الاستهداف، فقد جرت محاكمة في "ديار بكر" شملت 18 صحفيًا وإعلاميًا كرديًا، بتهمة "الانتماء إلى منظمة إرهابية"، كان 15 منهم أمضوا بالفعل 13 شهرًا في الحبس الاحتياطي قبل إطلاق سراحهم في الجلسة الأولى في يوليو/تموز الماضي.
وفي محاكمة في أنقرة شملت 11 صحافيًا كرديًا، كان تسعة أمضوا بالفعل سبعة أشهر في الحبس الاحتياطي قبل إطلاق سراحهم في جلسة الاستماع الأولى في مايو/أيار. إن تقييد حرية الرأي الذي يطاول الصحافيين الكُرد أكثر من نظرائهم الأتراك طبقًا للأرقام، يعكس مقدار قمع السلطات التي تسعى إلى تكميم أفواه الصحافيين الكُرد، باتباع وسائل قانونية مسيّسة تتبع للسلطة التنفيذية التي باتت تخالف مضامين الدستور التركي.
المحصلة النهائية لذلك كله، أن تركيا تشن "حربًا مفتوحة" ضد الكُرد، وأن حكومة أردوغان الحالية تتبنى موقفًا شوفينيًا من المسألة الكُردية، التي كانت ولا تزال محورًا من محاور الاضطراب والقلاقل في منطقة الشرق الأدنى، ومصدر معاناة لنحو 20% من سكان تركيا من ذوي الأصول الكردية، مكررة القول إنه "لا توجد في تركيا مشكلة كردية"!