تعود العلاقات التاريخية الوطيدة بين مصر وأفغانستان إلى زمن الفراعنة، حيث احتوت مقبرة الملك توت عنخ آمون، الذي حكم مصر في القرن 14 قبل الميلاد، على العديد من المصوغات الذهبية المطعمة بأحجار اللازورد الكريمة، كان مصدرها إقليم "بادخشان" شمال شرق أفغانستان.
ومن المواقف التي سجلها التاريخ، أنه عقب نكسة 5 يونيو 1967 توافد عدد كبير من الأفغان إلى السفارة المصرية في العاصمة "كابل"، طالبين من البعثة الدبلوماسية التطوع فورًا للقتال إلى جانب الجنود المصريين على الجبهة. وحينما لم يتسن لهم ذلك، تبرع الرجال بالمال، وتبرعت النساء بالحليّ، لمساندة المجهود الحربي المصري.
وفي كتابه "العلاقات المصرية ـ الأفغانية (1922 ـ 1979م): دراسة تاريخية في ضوء الوثائق المصرية غير المنشورة"، يسلط الدكتور سعيد الصباغ، أستاذ الدراسات الإيرانية المعاصرة بكلية الآداب جامعة عين شمس، الضوء على وقائع شبه مجهولة في العلاقات بين مصر وأفغانستان، نظرًا إلى قلة الدراسات المنشورة عن هذه العلاقات، فهو موضوع لم يُكتب فيه من قبل، ولا يحظى بكثير من الاهتمام، على الرغم من أن بلاد الأفغان هي أحد أهم محددات الأمن القومي المصري والعربي.
الأستاذ الدكتور سعيد الصباغ
والكتاب الذي نشره "مركز الخليج للدراسات الإيرانية"، ضمن سلسلة "أوراق إيرانية"، مدعومًا بالوثائق النادرة، والتي لم يسبق نشرها من قبل، يؤسس لرؤية جديدة في العلاقات بين البلدين، مشددًا على المكانة المهمة التي تمتعت بها أفغانستان بالنسبة لمصر ومصالحها القومية؛ نظرًا لأنها واحدة من دول آسيا الوسطى، التي تعاظم ارتباطها بمنطقة الشرق الأوسط؛ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في أواخر ديسمبر من عام 1991م، وما ترتب عليه من سقوط التنافس القطبي، وتحول الولايات المتحدة إلى قطب أوحد يطرح مشروعاته للشرق الأوسط على الساحة، لتشمل المنطقة كلها، بما فيها أفغانستان، بالمفهوم الواسع للجغرافيا السياسية.
مصر.. نموذج يُحتذى
يقول الصباغ، في مقدمة الكتاب، إن مصر تمتلك رصيدًا إيجابيًا كبيرًا لدى الشعب الأفغاني، حتى إنه يُنظر لها على أنها النموذج الذي ينبغي عليها الاحتذاء به، لا سيّما أنها لم تتورط في أي وقت من الأوقات في التسبب إراقة دماء الشعب الأفغاني، على غرار كل من باكستان وإيران، كما لم تتورط أيضًا في تأجيج الصراع الداخلي أو المذهبي، ولا الحرب الأهلية فيها، بل كانت دائمًا وسيط خير بين فرقاء الداخل، لمًّا للشمل.
وتعود نشأة التمثيل الدبلوماسي بين مصر وأفغانستان إلى عام 1922م، عام إعلان مصر "دوله مستقلة ذات سيادة"، بموجب تصريح 28 فبراير 1922م، وإنهاء الحماية البريطانية عليها، عندما بادر الأمير حبيب الله أمير أفغانستان، بإرسال "خطاب تهنئة" إلى الملك فؤاد بمناسبة نيل مصر استقلالها، بتاريخ الخامس من سبتمبر عام 1922م، وإيفاده، من جانب واحد، رجلًا من كبار رجالات الفكر والسياسة ممن كانوا يتمتعون بسمعة وطنية وخبرة سياسية كبيرة، هو "محمود طرزي" إلى بلاط المملكة المصرية، بوصفه أول وزير مفوض لها لدى القاهرة.
الملك فؤاد الأول وإلى جواره أمان الله خان
وجاء في خطاب الأمير حبيب الله إلى الملك فؤاد، الذي يُنشر لأول مرة ضمن ملحق الوثائق في الكتاب: "هو الله تعالى شأنه، صاحب الجلالة صديقي المبجل ملك المملكة المصرية العلية، زيد إجلاله.
"بعد الابتهال برفعة الدين الإسلامي والعزة لأقطاره بمساعي صاحب الجلالة ذي الرأي الرشيد، أتشرف بأن أحيط جلالتكم أن الخبر السار بنيل مصر وشعبها الحرية والاستقلال قد وقع أحس الوقع في نفوس شعب محبكم ودولته العلية وأوجب سرورًا زائدًا وفرحًا عارمًا، حتى أن كلًا من حكومة أفغانستان وشعبها قد نظرا بعين الإجلال والتوقير إلى استقلال دولة مصر السنية.
"وإني بهذه المناسبة لأتقدم بخالص التهاني القلبية لكم يا صاحب الجلالة راجيًا من المولى جل في علاه أن يديم المملكة المصرية المستقلة تتدرج في معارج الرقي والفلاح حسب رغائبكم العالية. وإني لأجل عرض واجب التهاني والتعبير عن المودة والمحبة حيال ذاتكم الملكية وشعب جلالتكم الكريم؛ فقد اختار محبكم جناب عالي القدر محمود بك طرزي وزيرنا المفوض بعاصمة فرنسا، وأوفدته إلى بلاط مملكتكم السنية، بوصفه سفيرًا فوق العادة إليكم؛ لتوثيق عرى المودة وروابط الولاء والمحبة بين الدولتين العليتين الأمر الذي يجلب فوائد جمة للبلدين ولي وطيد الأمل في أن جلالتكم تعتمدون جناب الوزير المُشار إليه سفيرًا فوق العادة، وثقوا أن حكومة أفغانستان جادة وساعية في تعزيز علاقات المودة وحسن النوايا مع مصر. وتقبلوا فائق الاحترام وخالص المودة".
ويشير المؤلف إلى أن "العلاقات المصرية الأفغانية بدأت منذ ذلك الحين، وحتى عام 1952م، عام رفع درجة التمثيل السياسي بينهما إلى مستوى السفارة، أولى خطواتها الرسمية نحو استكشاف فرص تعزيز التقارب. وكم كانت كابل هي صاحبة المبادرة في تعزيز تقاربها وتوطيد علاقتها مع القاهرة، ولم لا وقد قصدها الملك أمان الله خان بأول زيارة رسمية في التاريخ الحديث والمعاصر، عام 1927م".
ويورد الصباغ، ما رواه الكاتب الصحفي مصطفى أمين من أن الملك فؤاد رحب بزيارة ملك أفغانستان لمصر، ولكنه عندما علم أن الملك أمان الله دعا نساء أفغانستان إلى نزع الحجاب اقتداءً بـ "كمال أتاتورك" وأن البرقيات الواردة تفيد أن الملكة "ثريا" سترافق الملك "سافرة" في رحلته؛ اضطر إلى إلغاء إقامة الضيف الأفغاني في قصر عابدين؛ نظرًا لأن التقاليد تحول دون اشتراك الملكة "ثريا" في الزيارة الرسمية.
وافق الملك "أمان الله" على أن تكون إقامة "ثريا" في مصر إقامة غير رسمية؛ فلا تشترك في الحفلات أو الاستقبالات التي يدعى إليها، وألا تظهر سافرة أثناء إقامتها في مصر مراعاة لتقاليدها؛ فخضعت ثريا لرغبة الملك فؤاد الذي أصدر أمره إلى وزارة الداخلية بمنع تصوير ملكة أفغانستان. ومن ثم لم تظهر صورة واحدة للملكة ثريا في الصحف المصرية طوال مدة الزيارة.
وكانت القاهرة شاهدة على توقيع أول معاهدة صداقة بين البلدين، عام 1929م، كما كانت شاهدة أيضًا على تبني كابل عدد من المواقف الإيجابية، خلال هذه المرحلة، التي جسدت مدى اهتمامها بتحقيق مزيد من التقارب معها.
جامعة الأمم العربية
في 22 مارس 1945م، باركت أفغانستان لمصر تأسيس الجامعة العربية بالقاهرة. وقد ذكر وزير مصر المفوض بكابل في كتابه إلى الخارجية في مايو 1945م، أن صاحب السمو الملكي رئيس الوزراء الأفغاني، قال له في معرض ترحيب بلاده بتأسيس الجامعة العربية: "إن مصر لها الصدارة بحق من الناحية الدينية والثقافية؛ كذلك تجدنا نتتبع باهتمام كل تطور عندكم. كما أن ما قام به ملككم في السنين القليلة من أعمال وما رسمه لحكومته الرشيدة من توجيه، كل هذا يثير إعجابنا بالنهضة العربية التي نتمنى لها المزيد. وإننا نرى في جامعة الأمم العربية بشير الخير، كما نرى في إخراجها إلى حيز التنفيذ بفضل ملككم وفكر جلالته وقوته الدافعة، ما يُبشر بالنفع العميم".
وأيدت أفغانستان قرار مصر القاضي بإلغاء معاهدة 1936م، ثم اختصها الملك محمد ظاهر شاه بزيارة ودية عام 1950م، وهي جميعًا كانت تمثل في حد ذاتها معطيات مهمة لأن تولي مصر اهتمامها بأفغانستان، لاسيما فيما بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952م.
الملك فاروق والملك محمد ظاهر شاه
وفي 30 أبريل عام 1955م، قام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بزيارة كابل، في زيارة تاريخية؛ فقد كانت تمثل المرة الأولى التي يقوم فيها زعيم عربي بزيارة أفغانستان في التاريخ. والتي حظي خلالها باستقبال وحفاوة رسمية وشعبية رائعة.
وصرح عبد الناصر، عقب لقائه بالملك محمد ظاهر شاه ورئيس وزرائه محمد داود، بأنه رأى أن يقوم بالوساطة بين أفغانستان وباكستان للتخفيف من حدة التوتر الناشب بينهما حول مسألة بختونستان".
الرئيس جمال عبد الناصر والملك محمد ظاهر شاه
في المقابل، كانت أفغانستان في مقدمة الدول التي أيدت حق مصر المشروع في تأميم قناة السويس؛ الذي أعلنه الرئيس جمال عبد الناصر، يوم 26 يوليو 1956م، فقد ذكر القائم بالأعمال المصري بالنيابة بالسفارة المصرية كابل عبد الوهاب خالد داود، ما يفيد ذلك في تقريره إلى الخارجية: "أجمعت كافة الدوائر الرسمية والأوساط الشعبية في أفغانستان على تأييد مصر في تأميمها لشركة القناة واستنكار ما لجأت إليه إنجلترا وفرنسا من أساليب الضغط والتهديد، فجاء في خطاب الملك محمد ظاهر شاه الذي ألقاه يوم 24 أغسطس بمناسبة عيد الاستقلال الأفغاني أن أفغانستان عبّرت عن تأييدها التام لإرادة الشعب المصري الحرة بتأميم شركة القناة، وعن أملها في أن تحترم الدول الكبرى حقوق الشعوب والمبادئ الدولية وميثاق الأمم المتحدة واعتبارات السلام الدولي، وأن تنتهج مسلكًا في احترام حقوق الشعب المصري".
ووفق المؤلف، لعبت المتغيرات الدولية في تلك الفترة، دورًا مهما في تكريس مبررات تعزيز التقارب بين مصر وأفغانستان، وتوثيق وشائج الأخوة بينهما، بقدر ما لعب موقع أفغانستان الاستراتيجي دورًا في تقوية ارتباطها بمنطقة الشرق الأوسط، بعد أن أصبحت تُمثل، بالنسبة لمصر، مدخلًا لآسيا الوسطى بديلًا عن إيران وتركيا، اللتان حددتا مصالحهما في الاعتراف بإسرائيل، في وقت كانت مصر تحاول فرض طوق من العزلة على هذا الكيان المحتل للأراضي العربية، وفي انضمامهما لـ "حلف بغداد"، الذي عارضته القاهرة بشدة.
أيام الغزو السوفيتي
في يوم 27 ديسمبر 1979م، دخل الشيوعي "ببرك كارمل" العاصمة كابل في حماية القوات السوفيتية، التي بدأت بدورها غزوًا عسكريًا عنيفًا لأفغانستان؛ أدخل البلاد في دوامة صراع مأساوي، لم تنته أبعاده منذ ذلك الحين حتى وقتنا الراهن.
وكانت مصر أول دولة في العالم العربي والإسلامي، تتحرك وتعلن موقفها الواضح من التطور المأساوي للأوضاع في أفغانستان منذ بدايتها. وستظل جميع المواقف التي اتخذتها القاهرة من هذه التطورات شاهدة، حتى اليوم، على متانة العروة الوثقى التي كانت تربطها بكابل ولا تزال.
وقام الدكتور بطرس غالي وزير الدولة للشئون الخارجية، باستدعاء السفير السوفيتي بالقاهرة آنذاك "فلاديمير بوكولياكوف" رسميًا، وطلب منه إبلاغ حكومته بأن القاهرة تدين التدخل السوفييتي في أفغانستان، وأنها ترفض سياسة "الهيمنة السوفيتية على مصالح الدول الصغيرة".
وأعلن الرئيس الراحل أنور السادات، في أكثر من مناسبة أنه سوف يقدم كل مساعدة ممكنة للمجاهدين الأفغان، قائلًا: "كل شيء في أيدينا.. أسلحة .. أموال .. كل شيء.. كل مساعدة ممكنة يجب أن نقدمها لهم. وأقولها لكي تسمعها موسكو، سوف نستمر في إرسال السلاح إلى ثوار أفغانستان حتى يدافعوا عن استقلالهم ويحرروا وطنهم".
واستمر الموقف المصري المؤيد والمساند للمجاهدين الأفغان، في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك على جميع المستويات السياسية والمعنوية، كما قدمت مصر مساعدات إنسانية كبيرة للمهاجرين الأفغان في مدينة بيشاور، وقامت بعلاج عدد من جرحى المجاهدين في مستشفيات "الهلال الأحمر" المصري بالقاهرة وطنطا. وظلت تساند القضية الأفغانية في المحافل الدولية، وتدعو لانسحاب القوات الروسية من أفغانستان، حتى تحقق ذلك فعليًا يوم 15 مايو 1988م.
ويؤكد الصباغ، أخيرًا، أن الأزهر الشريف تمتع بمكانة موقرة في أفغانستان، بوصفه المؤسسة الدينية الشاملة التي يحظى خريجوها باحترام وتقدير كبيريّن عند الشعب الأفغاني، وأصبحوا فيما بعد روادًا للحركة الإسلامية في المجتمع الأفغاني، والجهاد في ساحات القتال، الذي أجبر القوات السوفيتية الغازية على الانسحاب من بلادهم.
ختامًا، يقول المؤلف إن تعظيم المصالح المشتركة سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا بين القاهرة وكابل، سوف يكون من العوامل المؤثرة على علاقات التقارب بين مصر وأفغانستان، ويعزز دور مصر في آسيا الوسطى على جميع المستويات.
ويعتبر الصباغ، أنه "يتعيّن على مصر، بما لها من ريادة إسلامية منشودة، أن تعيد صياغة الواقع الثقافي الأفغاني، بما يجعلها نموذجًا مكملًا لدورها المناظر في دول آسيا الوسطى".