الصليبيون في بيت المقدس... وأكبر مجزرة في تاريخ المدينة المقدسة
يتحدث المؤرخ ابن الأثير في كتابه الكامل(10/283 وما بعدها):
«وملكوها ضحوة نهار يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان ( 492 للهجرة) وركب الناس السيف، ولبث الفرنج في البلدة أسبوعا يقتلون فيه المسلمون، وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا، منهم جماعة كبيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم .. وأخذوا من عند الصخرة نيفا وأربعين قنديلا من الفضة، وأخذوا تنورا من فضة، وأخذوا من القناديل الصغار مائة وخمسين قنديلا، ومن الذهب نيفا وعشرين قنديلا، وغنموا ما لا يقع عليه الإحصاء».
لقد كانت المجزرة شنيعة واشتد وقعها على نفوس المسلمين من الفقهاء والعلماء والعوام غير أن أصحاب السلطان لم يكونوا على استعداد للبذل أو للجهاد خوفا على ما في أيديهم من الحكم والعز والجاه ويروي ابن القلانسي عما حصل في بغداد عند وصول الخبر ( بعد أشهر ) قائلا "وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق، مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة والسلطان، منهم القاضي أبو سعد الهروي، فلما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا، وقد نظم أبو سعد الهروي كلاماً قرئ في الديوان وعلى المنابر، فارتفع بكاء الناس، وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد، فخرج ابن عقيل وغير واحد من أعيان الفقهاء فساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون" .. فما أشبه اليوم بالبارحة.
ويقول ابن خلدون: "استباح الفرنجة بيت المقدس، وأقاموا في المدينة أسبوعًا ينهبون ويدمرون، وأُحصِيَ القتلى بالمساجد فقط من الأئمة والعلماء والعباد والزهاد المجاورين فكانوا سبعين ألفًا أو يزيدون ..".([1])
ويضيف هنا أيضاً المؤرخ "غوستاف لوبون" في كتابه "حضارة العرب"(ص 400 وما بعدها) شهادة مروعة يرويها أحد مرافقي الحملة، حيث يقول:
"كان قومنا يجوبون كاللبوات التي خُطفت صغارها، الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل، فكانوا يذبحون الأولاد والشبان والشيوخ ويقطعونهم إربًا إربًا، وكانوا لا يستبقون إنساناً، وكانوا يشنقون أناساً كثيرين بحبل واحد بغية السرعة، وكان قومنا يقبضون على كل شيء يجدونه فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعاً ذهبية، وكانت الدماء سيلاً كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث.. ثم أحضر "بوهيموند" جميع الذين اعتقلهم في برج القصر فأمر بضرب رقاب عجائزهم وشيوخهم وضعافهم وبسوق فتياتهم وكهولهم الى أنطاكية ليباعوا فيها.. لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، فكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهنالك وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها فإذا اتصلت ذراع بجسم لم يعرف أصلها، وكان الجنود الذين أحدثوا تلك الملحمة لا يطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك إلا بمشقة .. وأراد الصليبيون أن يستريحوا من عناء تذبيح أهالي القدس قاطبة، فانهمكوا في كل ما يستقذره الإنسان من ضروب السكر والعربدة.."
روى ابن الأثير في تاريخه 8/189-190 عن دخول الصليبين للقدس في الحروب الصليبـية فقال: (مَلَك الفرنج القدس نهار يوم الجمعة، لسبع بقين من شعبان، وركب الناس السيف، ولبث الفرنج في البلدة أسبوعا يقتلون فيه المسلمين، واحتمى جماعة من المسلمين بمحراب داود، فاعتصموا به، وقاتلوا فيه ثلاثة أيام، و قتـل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعـين ألفا، منهم جماعة كبيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان و جاور بذلك الموضع الشريف ).
كما وصف ستيفن رنسيمان في كتابه " تاريخ الحروب الصليبية " ما حدث في القدس يوم دخلهـا الصليبيون فقال: (و في الصباح الباكر من اليوم التالي اقتحم باب المسجد ثلة من الصليبيين ، فأجهزت على جميع اللاجئين اليه ، وحينما توجه قائد القوة ريموند أجيل في الضحى لزيارة ساحة المعبد أخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبتيه ، وتركت مذبحة بيت المقدس أثرا عميقا في جميع العالم ، وليس معروفا بالضبط عدد ضحاياها ، غير أنها أدت إلى خلو المدينة من سكانها المسلمين واليهود ؛ بل إن كثيراً من المسيحيين اشتد جزعهم لما حدث) ( 1/404/406 ) .
شهادة على المذبحة:
يقول المؤرخ الصليبي الذي حضر الحروب الصليبية ريمونداجيل: "سفك تانكرد وجودفري في المقدمة كمية لا تصدق من الدماء، وأنزل زملاؤهما الذين كانوا في أعقابهم آلامًا شديدة بالمسلمين.. فقد قطعت رءوس بعض المسلمين بلا رحمة، بينما اخترقت الآخرين الأسهم الموجهة من الأبراج، بينما عذب آخرون لوقت طويل، وأحرقوا حتى الموت في اللهب المتأجج، وتكدست في الطرقات والبيوت الرءوس والأيدي والأقدام، وفعلاً فقد كان الفرسان والرجال يجرون جيئة وذهابا فوق الجثث". ([2])
[1] - ابن خلدون: العبر: 5 / 184
[2] - تاريخ الفرنجة غزاة بيت المقدس: ريمونداجيل: صـ 30