خلال الأربعين عام المنصرمة، أي منذ أن تمت الإطاحة بنظام شاه إيران عام 1979، يُمكن تقسيم التاريخ الداخلي لإيران إلى عقود متمايزة، كان لكل عقد منه خصائصه الذاتية، وإن من داخل منظومة الحكم الثيوقراطي القومي نفسه.
العقد الأول، الذي تلا سيطرة الخميني وتياره على البلاد، يمكن تسميته بعقد مآسي الحرب المفتوحة مع العراق. حيث تمكنت السُلطة الدينية، وبسبب استغلالها آلية وأحوال تلك الحرب، تمكنت من فرض سطوتها السياسية والاجتماعية والثقافية على كامل المجتمع الإيراني.
سنوات حكم الرئيس أكبر هاشمي رفسنجاني الطويلة، التي تلت ذلك العقد، تميزت بتحول وفرز في بنية الحياة العامة الإيرانية، الاقتصادية والاجتماعية منها بالذات. بين أقلية من الحاكمين الأغنياء المسيطرين على أشكال الحياة العامة، وبين القواعد الاجتماعية الأوسع، المحرومة من الحد الأدنى من الحقوق والحريات والحياة الكريمة، والتي خسرت خلال تلك السنوات جميع مكتسباتها التي نالتها بفضل سياسات الشاه رضا بهلوي الإصلاحية.
الإيرانيون لا يعتبرون أن حروب نظامهم الحاكم الخارجية هي حروبهم
شابهت سنوات حكم رفسنجاني بحقيقتها جميع الأنظمة الشمولية في مرحلة ما بعد سقوط التجربة السوفياتي، فتميزت بإعادة هيكلة شكلية للاقتصاد الوطني تحت يافطة الانفتاح، ليغدو شبه مزرعة خاصة واحتكارية للحاكمين تجمع ذلك بشمولية سياسية مطلقة.
سنوات حكم الإصلاحيين في فترتي حكم الرئيس محمد خاتمي، ظهرت في المحصلة كمجرد رغبة من النواة الصلبة للنظام في امتصاص غضب ملايين المحرومين من السكان الجدد للمدن، ومعهم الطبقات الشبابية الإيرانية الجديدة، التي صارت جزءا من حركة العالم منذ أواخر التسعينيات، بفضل وسائل التواصل الحديثة.
لكن خاتمي وعصره كان مجرد ستارة براقة لما كان يفعله الحاكمون الفعليون في البلاد خلال سنواته، بالذات من خلال التحول الجوهري الذي أصاب مركز الحكم، ليتغير من مجرد نظام ثيوقراطي عقائدي، إلى نظام محاصصة بين طبقات الحكم الثلاث، رجال الدين والقادة العسكريين ومؤسسات الهيمنة الاقتصادية، التي كانت تلتقي وتتوافق وتتوزع الأدوار في ظلال عباءة المرشد الأعلى علي خامنئي.
عبر هذه الطبقة الحاكمة، وبالاستفادة من التناقضات الإقليمية والدولية، حولت إيران أنماط نفوذها الإقليمي إلى هيمنة وسيطرة فعلية على الكثير من البلدان. ذلك التغيير الذي كان جوهر سياسات إيران طوال سنوات حكم الرئيس محمود أحمدي نجاد الثمانية. من سوريا إلى اليمن، مرورا بالعراق ولبنان، كانت إيران تمنح نفسها سمة الدولة/الإمبراطورية في المنطقة، متجاوزة كافة الحساسيات والتوازنات، وعملت على الإطاحة بكل أشكال النفوذ الأخرى.
كانت الثورة الخضراء في أوائل الولاية الثانية للرئيس أحمدي نجاد عام 1999، كانت شاهدا على ملمحين سياسيين، أظهرهما النظام الإيراني بشكل واضح آنذاك: فشدة القمع دلت على أن طبيعة النظام الإيراني الصفرية تماما. أثبت بأنه نظام غير مهيئ أو قادر للدخول في أية مساواة أو إعادة تشكيل، حتى لصالح التيار الإصلاحي، الذي هو عضو تأسيسي من النظام نفسه. هذه الصفرية التي أنتجت العنف المفرط كردة فعل من قبل النظام على أية معارضة داخلية له، والتي تحولت بالتقادم إلى أسلوب سلكه كافة الحلفاء الإقليميين لإيران، حينما قامت انتفاضات شعبية مناهضة لهم.
الملمح الثاني تمثل في إثبات الثورة الخضراء بأن النظام الإيراني خارجي تماما، وأن قوته وقدرته على الصمود في الحكم إنما تتأتى من أدواته واستطالاته الإقليمية فحسب، وأنه شديد الهشاشة في الداخل من دون تلك الأدوات الخارجية.
♦♦♦
متظاهرو إيران اليوم، يحملون يأسا مركبا من الطبقات الأربعة تلك، التي تراكمت خلال عقود الحكم، حيث أسست كل واحدة منها لسمة متمايزة من سمات هوية وديناميكية النظام الإيراني الحاكم. وبهذا اليأس بالضبط، يبدو واضحا بأن المجتمع الإيراني قد وصل درجة التخمة، وأنه سيخوض مواجهة واضحة مع حاكميه، شبيهة بما تخوضه مختلف مجتمعات بلدان الشرق الأوسط، بالذات منها بلدان الهيمنة الإيرانية، من لبنان إلى العراق، وطبعا مرورا بسوريا.
يدرك الإيرانيون أولا استحالة الإصلاح من داخل النظام، وتحت أي ظرف، بما في ذلك غياب المرشد في أية لحظة. فنظام إيران مطابق في حالته لكامل طيف الأنظمة السلطوية في المنطقة، التي لم تنجح أية واحدة منها في إجراء أي تحول ذاتي.
يضاف إلى ذلك خبرة التجربة الملموسة التي خاضها الإيرانيون في زمني الرئيس خاتمي ودعم المرشح مير حسين موسوي في مواجهة أحمدي نجاد في ولايته الثانية، والتي انتهت كلها بقمع شديد من قبل نواة النظام لأية محاولة إصلاحية.
على نفس المنوال، فإن الإيرانيين يدركون الهوة الواسعة بين قواعدهم الاجتماعية الأوسع، وبين طبقة مجتمع الحاكمين، الذين صاروا يشكون مع أبنائهم من الجيلين الثاني والثالث وشبكات أقاربهم قرابة عُشر السكان، صاروا المليون الذهبي أو صاروا ما باتوا يعرفون في الأدبيات السياسية الحديثة بـ"الناجون الوحيدون".
فدورة الحياة العامة والسياسية والاقتصادية في البلاد، منذ ربع قرن وحتى الآن، إنما تزيد من قوة وهيمنة تلك الطبقة، التي صار لها عالمها ورموزها ومجالها وأماكن ارتيادها الخاصة، وحتى صار لها لغتها ومنطقها الخاص.
تلك الطبقة التي تتحول بالتقادم إلى شكل مُحدث من الإقطاع الاجتماعي والسياسي والثقافي القاسي، تزيد من نقمة تلك القواعد، وتثبت استحالة إيجاد أية مصالحة ومساحة وتنازلات متبادلة بينها وبين تلك القواعد، فهي تعيد خلق نفس السمات التي تميزت بها، ولو بشكل نسبي ومحدود، نفس الطبقة في زمن الشاه، والتي كانت محل الانتقام الأقسى فيما بعد. يعي الإيرانيون بجلاء أن لا حل لهم تلك الطبقة، التي تمتص كل خيرات البلاد، وتمارس كل أشكال التنمير على القواعد الاجتماعية الأوسع.
يدرك الإيرانيون أولا استحالة الإصلاح من داخل النظام
كذلك يعرف الإيرانيون بأن الحروب والمواجهات الخارجية، أيا كانت وتحت أية لافتة، لن تنتج إلا مزيدا من هيمنة الحاكمين على أُس الدولة والمجتمع الإيراني، بالضبط مثلما فعلوا طوال عقد الحرب الإيرانية العراقية الطويل، في زمن رئاسة خامنئي نفسه، أو خلال سنوات مدّ النظام الإيراني لاستطالات السيطرة المباشرة على محيطه الإقليمي، خلال رئاسة أحمدي نجاد.
بهذا المعنى، فإن الإيرانيين لا يعتبرون أن حروب نظامهم الحاكم الخارجية هي حروبهم، بل ربما هي حروب تُخاض ضدهم، عبر اتخاذها شماعات وظيفية، لتأجيل المطالب والاسئلة الداخلية قدر المستطاع. تلك الآلية التي رد عليها المُحتجون الإيرانيون بأكثر من مناسبة بشعار "الموت لـ لا أحد" أو "لا غزة ولا لبنان، روحي فداء إيران".
أخيرا، يعرف الإيرانيون في قرارة نفسهم بأن الدرب ـ درب الثورات على أنظمة الحكم الشمولية ـ الذي سيسلكونه شديد المخاطرة والوعورة، لكنه يبدو وكأنه طريق قدري وتراجيدي. حيث صحيح أن أحدا لم يسلم من بحر دمائه الغزيرة التي سيّلت، لكن أيضا وأولا، لم يتمكن أحد من الإطاحة المطلقة به، والسوريون درسٌ قريب ومباشر لكل أحد.
نقلا عن الحرة