الجمعة, 22 نوفمبر 2024
اخر تحديث للموقع : منذ إسبوع
المشرف العام
شريف عبد الحميد

المربط الصفوي| مقاربات عقدية وسوسيولوجية وسياسية وتاريخية (6)

آراء وأقوال - د.أكرم حجازي | Fri, Jul 15, 2016 3:11 AM
الزيارات: 817
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني

المبحث الثالث

  تحالفات فارس و « اليهودية» في بابل

لكثرة ما بات موطنا للأديان الوضعية، فقد اشتهر المجتمع الفارسي بالتنافس بين أصحاب الديانات. ولكونها تتيح لأصحابها امتيازات طويلة الأجل، بسبب طابعها الوراثي، فقد اشتهر المجتمع الفارسي، المستعبَد أيضا، بكثرة الفتن والتوترات والثورات. لكن أميز ما بدا ثقافة فارسية متجذرة، إنما يتعلق بأولئك الأكاسرة والملوك ورجال الدين، الذين  اكتسبوا خبرات عميقة في تحريف الأديان، حتى غدت حرفة ربما لم يسبقهم إليها، أو لم ينازعهم بجودتها أحد.

كتب ستانلي ويس في صحيفة « إنترناشيونال هيرالد تريبيون – 10/7/ 2012» الأمريكية يقول: « عندما زرت إيران كأميركي يهودي، أخبرني مسؤول إيراني أن إسرائيل الصهيونية هي أساس المشاكل في الشرق الأوسط، وأن وجود إسرائيل هو بمثابة وجود استعماري غربي في المنطقة يجب أن يزول … أجبت إنها غلطة إيران. فلو لم يحرر سيروس العظيم اليهود من عبودية الفرس قبل 2500 سنة ويطلب منهم العودة إلى القدس وإعادة بناء معبدهم، لما كانت إسرائيل موجودة الآن. عندئذ غيّر المسؤول الموضوع»[49]. فما الذي جعل المسؤول الإيراني يغير موضوع الحديث؟ أو بالأحرى؟

إنها العلاقة التاريخية التي لا مثيل لها بين اليهود والفرس، زمن السبي البابلي الذي قاده نبوخذ نصر ( بختنصر بالفارسي) ضد اليهود في فلسطين سنة 597 ق.م، ثم 587 ق.م. وبلسان اليهودي، ستانلي ويس، وفي عقر دار فارس اليوم، يجري الحديث عن الدور التاريخي لفارس، والذي يتعلق في التأسيس لـ (1) قومية يهودية، و (2) والمبادرة بتحريف التوراة، و (3) كتابة التلمود، و (4) استعمال اليهود كحاجز بشري يحول بين فارس ومحيطها المتوتر خاصة مصر!!!

بدايةً، فليس هناك ما يثبت أن اليهود قومية. لكنهم بلا شك ملة. ولعل أبرز خصيصة تميزهم أكثر من غيرهم، وشابهوا بها الفرس، أصدقاءهم الأقدم في التاريخ، أنهم ملة لا تجيد الجوار الحضاري، ولا التعايش مع الآخرين. وما وقع لهم من عزل أوروبي، خلال القرن 18، وقتل خلال الحرب العالمية الثانية، هو ذات الأمر الذي وقع لهم من قِبَل الحضارات القديمة، كالآشوريين والآراميين والعرب الكنعانيين والبابليين والكلدانيين والمصريين والروم والأنباط وغيرهم. وتم تشتيتهم في مناطق حران والخابور وكردستان وفارس، إلى أن جاء نبوخذ نصر، وقضى على وجودهم في بيت المقدس، وساق بقيتهم سنة 597 إلى بابل، مسقط رأسهم، حيث سامهم هناك سوء العذاب[50].

خلال السبي والشتات، أو ما يسمى بالمصطلح اليهودي « الدياسبورا»، اندمجت الغالبية، وذابت في مواطنها، وبقيت قلة قليلة، هي التي اشتغل عليها الفرس، واشتغلت معهم، وأعادوها إلى فلسطين، محملة بمهمة تحريف التوراة وكتابة التلمود، لينتهي الأمر بدخولهم بيت المقدس تحت الهيمنة الفارسية، طوال مائتي عام، ما بين 539 – 332 ق.م. لذا، وقبل أن يفعل بولس فعلته في « النصرانية»، كان الكاهن عزرا بن سرايا، على رأس مهمة فارسية، في كتابة التوراة والتلمود، تمهيدا لعودة اليهود من السبي البابلي إلى بيت المقدس. فمن هو هذا الرجل؟ وكيف تم الأمر؟

مبدئيا كان اليهود الذين حلوا بفارس، بعد السبي، ينعمون بسلام تحت قيادة الإمبراطور الأخميني قورش الثاني، الذي كان لهم الدور الأعظم في تنصيبه على « شعوب المنطقة عنوة»[51]، ليدمر حضارتهم ويستعبدهم ويزيلهم عن الوجود. وكلاهما، اليهود والفرس الأخمينيين، تأثر وأثر بالآخر، وبشخصيته وعلاقاته ونمط حياته وحتى ثقافته وديانته. ولأنها إمبراطورية توسعية منذ نشأتها، فقد طور قورش من العلاقة مع اليهود، لتغدو في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، تحالفا يستعين به على إسقاط دولة بابل الكلدانية، مركز العالم القديم آنذاك، ثم ليتوسع باتجاه بلاد الشام ومصر. ولما تم له ذلك عمل على توطين الفرس في البلاد، خاصة من طبقة رجال الدين. إلا أن إقطاع الأراضي لهذا الطبقة مع فرض الضرائب والعمل على تغيير التركيبة السكانية، والتدخل في معتقداتها ودياناتها، لم تكن إلا مبررات للثورات، التي اجتاحت البلاد من بابل إلى مصر، وسط احتقان لدى أهل الشام.

يقرأ الكاتب عبدالله الضحيك هذه التطورات بكونها مقدمة، ستنتهي بكسرى فارس، قمبيز الأول، ابن قورش، إلى « إقامة كيان يكون معادياً لمحيطه على المفصل الحيوي بين بابل ومصر والأقاليم الأخرى»[52]. والمدهش بهذه النتيجة أن الحديث عنها قبل نحو 2500 سنة تَجَدد ثانية في مؤتمر « كامبل»، وزير خارجية بريطانيا، الذي عُقد في العاصمة البريطانية – لندن، فيما بين سنتي 1905 – 1907. وانتهى بما عرف بـ « توصية كامبل»، التي مهدت لصدور « وعد بلفور» سنة ،1917 الذي دعا إلى، وعمل على، « إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين». أما التوصية فقالت:

   « أكد المؤتمرون: إن إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم ويربطهما معا بالبحر الأبيض المتوسط بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة عدوة لشعب المنطقة، وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها. هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة»!!!

ينتسب الكاهن عيزرا، المتوفى سنة 444 ق.م، إلى طائفة « الفريسيين» أو ما يعرف بـ « الأرثوذكسية اليهودية». وفي زمانه شغل منصب « المسؤول عن شؤون اليهود في البلاط الفارسي»، وهو الشخصية التي تكفلت بتنفيذ المشروع. وكان عليه، مع تلامذته الكتبة، أن: « يهيؤوا المنفيين اليهود نفسيا للرحيل من بابل، ومنها يقومون على احتلال العالم كما وعدهم يهوه»[53]. أما فكرة عزرا، فكانت استغلال الواقع الديني لليهود، الذي لم يكن ينعم بعد بأي نص مكتوب كالتوراة، فضلا عن تلمود بابل فيما بعد. فكل ما كان بحوزته تعاليم شفاهية. ولا شك أن كتابة عزرا للتوراة بعد مرور 500 عام على النبوة سيكون مشروعا مغريا، لاسيما إذا تم تبريره بكونه « إملاء من الروح القدس»[54]. وبعيدا عن التفاصيل، فقد نجح عزرا، بموجب توراته الجديدة التي صاغها بمعية الكتبة من تلاميذه، بوحي من احتياجات فارس، بإقناع اليهود بها، والشروع بالعودة إلى « أرض الميعاد»[55]! لكنه بقي في بابل لكتابة التلمود، ولم يعد مع المجموعات الأولى إلى بيت المقدس. ولما عاد لاحقا بدت « اليهودية» منظمة، من حيث توفرها، لأول مرة، على نص مكتوب، سيمكنها والأجيال القادمة من قراءة دينها ودراسة تعاليمه، ويؤسس لحياة ومستقبل ما سيبدو بنظرها شعبا وقوما متماسكا. أما التلمود فهو الشريعة الشفاهية التي تفسر التوراة.

في المحصلة، لا التوراة ولا التلمود يتضمنان شريعة النبي موسى u. وهي نتيجة يدركها اليهود بكافة علمائهم. وفي السياق يذكر إسرائيل شاحاك أن:《« سفر عزرا في العهد القديم، يشمل سردا لنشاطات عزرا الكاهن، … الذي خوله ملك فارس، ارتحششتا الأول، صلاحية « تعيين قضاة على يهود فلسطين»، حتى إذا حصل « ولم يأتمر أحدهم بقانون الرب آلهكم، وبقانون الملك، ينفذ فيه الحكم بسرعة، سواء حكما بالموت أم بالنفي أم بمصادرة البضائع أم بالسجن»》.

لذا فإن صاحب « التوراة: غاياتها وتاريخها»، لم يفته قول أحد المراجع التي يصفها بـ « الصميمة»، وهو يعلق على هوية الديانة « اليهودية»، بالقول: « إن تفهم الديانة العبرية مستحيل ما لم تؤخذ بعين الاعتبار، وبشكل مستمر، الديانات والثقافات الأخرى التي نمت وترعرعت في وادي الفرات … إن الأصول القضائية البابلية، وكذلك الطقوس المعمول بها في المعابد البابلية، يجب أن تؤخذ كعوامل حاسمة التأثير على الشرائع العبرانية في الأصول القضائية والطقوس الدينية»[56].

وبحسب شاحاك و: « من خلال سفر نحاميا، ساقي الملك، ارتحششتا، الذي عين حاكما فارسيا ليهودا ويتمتع بسلطات أكبر»، فقد وصل إلى نتيجة مدهشة للغاية، في معاينة أثر فارس في الديانة « اليهودية»، حين يقول: « يتبين لنا إلى أي حد كان دور الإكراه الأجنبي، … فعالا في  فرض الديانة اليهودية، وبنتائج دائمة»[57]. أما وجه الدهشة فيمكن ملاحظتها في المشاهد الثلاثة التالية:

المشهد الأول: يكمن في صفة الديمومة التي تؤكدها آيات الله تعالى في بني إسرائيل: ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً﴾، (الإسراء:4). فاليهود هم ملة الفساد والإفساد في الأرض إلى قيام الساعة.

المشهد الثاني: أن الفرس المجوس هم أكثر من يقف خلف تحريف التوراة، بل والحض على وضعها بالمحتوى الذي يلائمهم، وتحقق أغراضهم كإمبراطورية توسعية آنذاك.

المشهد الثالث: في كَتَبة الشريعة البابليين، الذين رغبوا، بوعي أو بلا وعي، في تحقيق ما تصبو إليه فارس من « نتائج دائمة»، حين اتخذوا، بحسب وصف د. آرثر روبن لهم: « إجراءات استثنائية لعزل اليهود عن باقي العالم، ونظموا حياتهم الخاصة تنظيماً دقيقاً قاسياً، وفرضوا عليهم شروطاً حياتية، تجعلهم تحت رحمة رؤسائهم ما داموا أحياء، بل وجعلوا منهم فئة محقوداً عليها، بل محاربة من باقي العالم، عن سابق قصد وتخطيط، مما لا يحسدون عليه إطلاقاً»[58]. لذا فقد لخص صاحب «التوراة: غاياتها وتاريخها»، هذا المشهد بقوله، أن التوراة: « لم تكن دينا صحيحا بمعنى الكلمة، بل منظمة قتالية تلبس لبوس الدين»[59].

قد يبدو مثيرا التساؤل؛ عمن أثر في الآخر: اليهود أم الفرس المجوس؟ أو من استفاد أكثر من الآخر؟ لكن المؤكد أن الطرفين تبادلا، بصلافة، المنافع على امتداد التاريخ. ولئن كان العرب قد دفعوا ثمنا باهظا، بسبب تحالفات الفرس واليهود قبل التاريخ، فإن الأمة المسلمة دفعت، من دينها وأبنائها ومستقبلها، أفدح الأثمان، بسبب ما أحدثوه من فتن وحروب، وتحالفات مع كل عدو بعد التاريخ الميلادي، وخاصة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وفي سياق استمرار تحالفاتهم مع اليهود، قطعت المصنفات التاريخية كل شك بيقين، بحقيقة هوية الدولة العبيدية، وما فعلته من كوارث بحق الأمة. ومما قاله الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء 15/151، بحق عبيد الله المهدي، أول حكامه، أن: « في نسب المهدي أقوالٌ: حاصِلُها: أنَّه ليس بهاشميٍّ، ولا فاطميٍّ»، وفي صفحة 213، نقل عن أبي شامة صاحب كتاب: « كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد»، قوله: « يدَّعون الشرف، ونسبتهُم إلى مجوسي، أو يهودي، حتى اشتهر لهم ذلك، وقيل: الدولة العلوية والدولة الفاطمية، وإنما هي الدولة اليهودية أو المجوسية أو الملحدة، الباطنية». ويشير الباحث الباكستاني ظفر الإسلام خان إلى أن اليهود تبوؤا: « مناصب هامة جدا في مصر حتى العصر الحديث، وخصوصا في الدولة الفاطمية، التي نكاد أن نقول إن اليهود هم الذين كانوا يحكمونها من وراء الخليفة»[60]. وبعد تركيا أتاتورك، كانت إيران هي الدولة الثانية في العالم الإسلامي التي اقيم علاقات واسعة مع « إسرائيل»، وظلت كذلك إلى سنة 1979، حين أطاح الخميني بنظام الشاه. وأغلق مقر البعثة « اليهودية»، لكن دون أن يقطع العلاقات مع « اليهودية»، ورموزها الثقافية والاقتصادية، بما في ذلك صفقات الأسلحة خلال الحرب العراقية – الإيرانية ما بين سنتي 1980 –  1989.

أما الاطلاع على عقائد « الإمامية» مثلا، وهو ما أشرنا إليه سابقا في البحث، فسيبدو مشهد التحالف مثيرا، بقدر ما تبدو « الإمامية»، هذه المرة، هي المنتفعة منه أكثر من التراث اليهودي، الموضوع في توراة بولس وتلموده. ولا ريب أنها كانت مقارنات طريفة تلك التي قام بها الباحث العراقي، علي الكاش، بين التلمود ومراجع « الإمامية» في عقائد « الولاية» و« الرجعة» والتوريث والطاعة و« التقية» وتناسخ الأرواح والملائكة و« المهدي المنتظر» واستشارة الله للأئمة والحاخامات، وغيرها من المشتركات المنهجية وحتى العقدية. ولعل أطرف ما قالته « الإمامية» في السياق أن: « القائم سيحكم بشرع داوود. وأن المسيح المنتظر سيجمع يهود العالم في القدس، والمهدي المنتظر سيجمع أنصاره في الكوفة»، وكل ما ينقص « الإمامية» بحسب « الكافي 1 / 231) هو: « عصا موسى، وسيف علي بن أبي طالب»، وهو عين ما قال به الخميني في (الحكومة الإسلامية، ص 135): « إذا عزمنا على إقامة حكم إسلامي سنحصل على عصا موسى، وسيف علي بن أبي طالب».

تعليقات

أراء وأقوال

اشترك في النشرة البريدية لمجلة إيران بوست

بالتسجيل في هذا البريد الإلكتروني، أنتم توافقون على شروط استخدام الموقع. يمكنكم مغادرة قائمة المراسلات في أي وقت