الفصل الثاني
تاريخية العداء والحقد الفارسي المجوسي
المبحث الأول
الفتح الإسلامي وصعود القومية الفارسية
كانت الإمبراطورية الفارسية، من حيث القوة والنفوذ والسيطرة، إمبراطورية عالمية وليست إقليمية، وفي حالة تنافس وصراع دائم مع الإمبراطورية الرومانية الشرقية. وبطبيعة الحال كانت تعتبر نفسها سيدة، فيما رعاياها من الشعوب الأخرى عبيد[36]. وكانت متواجدة في شمال الجزيرة العربية وجنوبها، ومسلحة تسليحا قويا، عدةً وعتاداً، وذات خبرات عريقة في السياسة والتنظيم والحرب، حتى أن العرب، في ظل الإسلام، ظلوا يهابون سطوتها وغضبها. لذا لم يكن أحد من الفرس، أو غيرهم، ليتخيل قوة ما، تعلن الحرب على إمبراطورية بهذا الحجم والقسوة، فكيف بمن لا يملكون أدنى مقارنة من المسلمين؟ وكيف بهم يهددون عرش فارس، وهم بالكاد خرجوا من حروب الردة؟ بل ويهدمونه إلى غير رجعة؟ وينجحون في التأسيس لنواة إمبراطورية عالمية عابرة للقارات، في فترة قياسية لا تتجاوز 13 عاما، بدأت مع الصدّيق وانتهت بعمر ابن الخطاب، خلال الفترة ما بين 11هـ -633م / 23هـ – 644م!!!؟
وكي نفهم حقد المجوس على العروبة والإسلام، وسعي أحفادهم إلى التوسع، أملا في استعادة أمجاد الإمبراطورية، يتوجب علينا مقاربة هذا السلوك النفسي بالواقع التاريخي. فلم يك الفتح الإسلامي لفارس ليتوقف عند هزيمة نكراء في معركة القادسية أو نهاوند. بل كان يعني إطفاءً تاما لنار أول إمبراطورية أقيمت في العالم، في الفترة ما بين 550 ق.م – 630م، … إمبراطورية وصل لهيبها شرقا إلى بلاد الهند والأفغان، وغربا إلى العراق وبلاد الشام ومصر وليبيا، وكامل القوس الشمالي من بلاد الترك حتى الحدود الغربية للهند والصين، بالإضافة إلى بلغاريا، وجنوبا إلى الجزيرة العربية. وبالمقارنة لم تكن الإمبراطورية الفارسية كالإمبراطورية الرومانية في ذلك الحين. لذا كانت هزيمتها في معركة اليرموك أقل ضررا بعودتها إلى وطنها الأم، وكذا الأمر حتى بالنسبة للإمبراطورية الرومانية الشرقية، فقد ظلت الهزيمة الفادحة في القسطنطينية (1453م) قابلة للاستيعاب من قبل عالَم النصارى، واستعادة المبادرة في أزمان لاحقة. لكنها بالتأكيد لن تكون مجرد هزيمة لو أن روما سقطت!
لذا كان قرار أبي بكر الصديق، في مواجهة فارس في العراق، واحدا من أعظم القرارات في التاريخ الإنساني وأغربها. أما الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، فقد اتخذ قرارا حاسما في ملاحقة فارس، ليس في العراق فحسب، بل وفي عقر دارها، ومطاردتها حتى حدود السند، وإسقاط الإمبراطورية الساسانية، بجغرافيتها وعسكريتها ونظمها السياسية والدينية والاجتماعية، وتشريد أكاسرها وملوكها، وملاحقتهم حتى في ملاذاتهم، وحرمانهم للأبد من فرصة الرد أو حتى استيعاب الصدمة.
فقد أثبت المسلمون في حربهم لفارس تفوقا ساحقا، فيما أظهرت الحرب عيوب الدولة وخوائها، وجبن الفرس في خوض المعارك، لاسيما أن الجنود كانوا يقيدون بالسلاسل. ومع ذلك فقد كان الفرار غالبا عليهم. فمن أعجب الحقائق، أن المسلمين العرب، المعدمين إلا من قوة الإيمان (1) تجرؤوا، بلا أية مقدمات، على اتخاذ القرار بالتوسع، وعلى (2) أن يكون الهدف في أول الفتوحات الإمبراطورية الأعظم، وأصروا على (3) خوض عشرات المعارك والحروب معها، ونجحوا في (4) تجريدها من مراكزها الإستراتيجية وحواضرها وقراها ومدنها، و (5) ومطاردتها، حتى (6) إسقاطها، و (7) إزالتها من الوجود، بل و (8) قطع دابر السلالة الساسانية، حتى لا يكون كسرى بعد كسرى[37].
لكن الحقيقة الأشد عجبا ودهشة، هي براعة الخليفة عمر في إدارة وقائع الحروب ضد إمبراطورية شاسعة، وذات بأس شديد، وفي أوج عظمتها، وعلى بعد آلاف الأميال، بكفاءة مذهلة، حتى يكاد الناظر في وقائع الحروب، يرقب عمر بن الخطاب، وكأنه في غرفة عمليات ضخمة، ومجهزة بأحدث أدوات الاتصال والتواصل، ويراقب قلب كل مدينة أو قرية أو ثغر، لكثرة ما يتلقى من معلومات واستيضاحات من القادة، ولما يتوفر له من كم هائل من التفاصيل، وما يتبعها من عقد الاجتماعات التشاورية مع الصحابة والقادة، أو لكثرة مما يصدر عنه من القرارات والتعليمات، لكل ما تتطلبه الضرورة الحربية، من كسب للوقت والتعامل معه بدقة بالغة.
لقد حطم المسلمون، في حربهم ضد فارس، القوة الميدانية للإمبراطورية الساسانية، في أربع معارك ضخمة هي: البُويب والقادسيَّة وجلولاء ونهاوند. لذا فقد شعر « أبناء الحرة» بإهانة بالغة، تلقوها من « أبناء الجارية»، أحط الناس، وأشدهم عبودية لهم، والأنكى؛ أنه من المفترض الأقل خطرا عليهم. ولعل تقييم ابن حزم الأندلسي لا يخلو من وجاهة، وهو يفسر ظهور الشعوبية بالقول أن: « الفرس، كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسهم حتى أنهم كانوا يسمون الأحرار الأبناء، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكان العرب أقل الأمم عند الفرس خطراً تعاظم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة وراموا يد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، ففي كل ذلك يظهر الله الحق».
يحدث هذا في لحظة شعور بالصعود القومي، ونمط حكم قائم على المزج بين الملك والكاهن، مكّن فارس من التمتع بقدر من التمدن والتطور، حتى صار مصدرا ضخما للثروة والشعور بالعظمة. لكنه بنفس الوقت، تَسبب بالصراع على السلطة وامتيازاتها، حتى أن عرش الإمبراطوريَّة الساسانيَّة تولّاه أحد عشر ملكًا على مدى أربع سنوات، كان آخرهم يزدجرد الثالث .. وفجأة ينهار كل شيء. لذا لم يتقبل أغلب الفرس الإسلام في البداية. بل أنهم أثناء الحروب، غالبا ما كانوا يصالحون على الجزية، بدلا من الدخول في الإسلام. لكن؛ هل يكفي الفتح الإسلامي لفارس، في تبرير ظهور الشعوبية، واستمرارها إلى هذا الوقت؟
ثمة اتجاه يقر بذلك، ويعبر عنه الكثير من الأكاديميين الإيرانيين. وفي السياق أوردت أسبوعية « صبح آزادي»، السابقة الذكر، رأيا لصادق زيبا، يقول فيه: « يبدو أننا كإيرانيين لم ننس بعد هزيمتنا التاريخية أمام العرب، ولم ننس القادسية بعد مرور 1400 عام عليها، فنخفي في أعماقنا، ضغينة وحقداً دفينين تجاه العرب، وكأنها نار تحت الرماد، قد تتحول إلى لهيب، كلما سنحت لها الفرصة»[38]. العجيب في كلام الأكاديمي الإيراني أن يتذكر القادسية بالاسم، ويضع نهاوند في ذمة التاريخ! وهنا يكمن بعض آخر من أسرار الضغينة والحقد المستمرين.
فما تعرضت له فارس على يد المسلمين لم يكن مسبوقا في تاريخ الحضارات والقوى الكبرى. ولو أن إمبراطورية ما سقطت بالسرعة القياسية التي سقطت بها فارس، أو قريبا منها، لكان لديهم ما يكفي لمواساتهم. لكن هذا لم يحدث فيما مضى. لذا فقد شعر الفرس بمرارة، لم يشعروا بها من قبل، لا هم ولا غيرهم! وكأن الأمر جرى في غفلة من الزمن، لا هي مسبوقة، ولا متخيلة.
المأساة الثانية التي عاشها الفرس، والتي تفسر ذِكْر المفكر الإيراني للقادسية بالاسم، أن بلادهم هي هضبة تفتقر للأنهار والخَصْب، وتحتضن صحراوين جدباوتين. لذا فقد ظلت أنظارهم، طوال تاريخهم، تتوجه نحو السهول والمياه في بلاد الرافدين، حيث وَفَر العيش ورغده، وموطن الحضارات الزاخرة بحق. فكان شظف الحياة والعيش، هو الذي يدفع قبائل فارس على الدوام إلى ممارسة الغزو، والنظر إلى الأحواز العربية والعراق، باعتبارها سلة غذائها وغناها، حتى قبل أن تتشكل الإمبراطورية الفارسية، وتغدو إمبراطورية حربية توسعية واستهلاكية، تمارس العبودية بحق غيرها. لذا فالرجل؛ يتذكر القادسية كون البلاد، وما فيها من مصادر المعيش، بالنسبة لهم، هي مسألة حياة أو موت، لا خيار لهم فيها سوى الغزو. فكيف سيكون الأمر إذا غدت مصدر غنى وتجارة واستيطان[39] وحتى مركزا الإمبراطورية؟