الهزائم طعمها مر، وهي كاشفة تخرج ما في صدور الرجال والناس، وكلا يراها حسب علمه وفهمه، لكن هناك من يلقي التبعة فيها على غيره، وهناك من يحاول جلد نفسه، والحقيقة؛ أنه يجب علينا أن نبحث فيها لمعرفة الخلل، ونقاط الضعف، والقصور، والأسباب التي أدت إلى ذلك،
كما إنه يجب أن نستخرج العبرة، والعظة، والحكمة الإلهية في ذلك.
التيار الإسلامي هو جزء من المجتمع المسلم، وهو النخبة في هذا المجتمع، وهو الذي تحمل مسئولية التغيير.
وقد تعرض التيار الإسلامي لمجموعة من الهزائم المتصلة خلال التسعين عاما الماضية، وهي فترة تعادل قرن من الزمان، والتيار الإسلامي في مجموعه العام، مؤلف من حركات دعوية، وجهادية مختلفة فيما بينها في الفعل، والتطبيق، وفهم الدليل، ودراسة الواقع، ولذلك يظهر جليا للمتابع ما يحدث بينهم من خلاف، بل ولقد لعب عدوهم على ذلك، فاستطاع أن يفرق بينهم بسهولة، دون كثير فعل، فالمادة الخام للاختلاف أصيلة عندهم،
وحظ التجربة عندهم وافر. ما أسهل أن يسفه بعضهم بعضا أو يخطئ بعضهم بعضا، إفاءتهم بطيئة، وتلاومهم يغلب فعلهم، في أغلب حينهم يتركون ذبح عدوهم لذبح بعضهم، لكن لنلقي الضوء على جزء بسيط من الواقع.
إن ما حدث للتيار الإسلامي من هزائم ليس عن عجز في اجتهاد أو عدد، فهذا وفير كثير، والذي يظهر لي إنما هو عجز في العدة، لأن أدوات الأزمنة مختلفة، وما كان يحدث في القرون الماضية، من فقد الاتصال ومتابعة الأحداث، وامتلاك قوة السيف التي كانت تسل في كل موقف، حتى إنه يموت الملك ويتولى ملك والناس لا يعلمون، فالأدوات مختلفة تماما. لم يكن هناك إنجازات في عالمنا المعاصر، من الحداثة والاتصالات وامتلاك فضاءات السماء المفتوحة، وامتلاك النظم العسكرية المعقدة وأسلحة الجو والفضاء، وأدوات التجسس وعلومه وسرعة الاتصال والمباغتة، لذلك سوف تجد الخلاف في استخدام الأساليب والاجتهاد في كيفية التعامل مع الواقع الذي لم يكن له شبيه، لأن ما حدث من تقدم في كل
المجالات تم فى زمن بسيط بالنسبة لعمر الأمم، كل هذا التقدم في قرن من الزمان، لذلك كان الواجب أن تتجدد الفتوى لتواكب الحدث، وتتفاعل مع الأحداث ولا ألوم من وقف عاجزا أمام ذلك فليس كل الناس أهل لهذا الموقف، لكى يدلي بدلوه. المشكلة التى تواجهنا هي أنه لازال من بيننا من يقف عند أقوال أئمة وعلماء لم يشهدوا ما نحن فيه ولم يتوقعوا حدوثه،
فكيف نُصر على الأخذ بأقوالهم، وما نحن فيه نوازل تحتاج إلى المجتهد البصير؟
إن الخلاف بين القول بالهدم (الاجتثاث) والقول بالإصلاح خلاف قديم يتطور مع الواقع، وليس كل من خالفني في الأسباب عدوي، ومع كل هزيمة لا يجب الهدم الكامل والبناء من جديد، فالضرورة تقدر بقدرها، ولكل موطن مقال وفعل مختلف، إنما يجب البحث عن موطن الخلل، ومعرفة الواقع. "كل علماء عصرنا الحالي على اختلافهم اجتهدوا بما رآه كل منهم يصلح لحل الواقع"، ولم يسلم أحد منهم من تابع قليل الفهم، أو متعلم يريد أن ينتصر لرأيه أو منهجه، فكانت النتيجة أن سفه بعضنا بعضا، ولم نخرج بحل، وكانت البراءة على الموالاة وليست للدين،
وما أسهل من إلقاء القول بالفسق أو التبديع، بل تعدى للقول بالردة والكفر عياذا بالله، ووجدنا صنف لم يمتلكوا أدوات العلم فمن حاول منهم أن يجتهد خرج من عباءته وعبادته إلى ما هو أدنى، فمن كان يعمل بالعزائم تتبع الرخص، ومن كان يطلب المعالى أصبح يطلب السفاسف، ووضعوا العلماء والمتصدرين في المشهد والموقف للمقارنة والمناظرة بين قرنائهم ونظرائهم، فسقطت الهيبة وضيعت الأمانة، وسفهت الأحلام والأفهام، فهل بعد كل ذلك يرتجى نصر على عدو، أو يستبين قول، أو يتم إصلاح لذات البين، وبدل من البحث عن العدة، نبحث في أغوار الرجال ومكنون أنفسهم.
لقد أثرت الهزيمة بشكل كبير في العقل الإسلامى، وزاد ذلك مع فقد أدوات النصر، فى العصر الحالي، وفى ظل الواقع العالمي الرافض لعودة الإسلام القوي، فلجأ صنف منهم إلى العودة إلى تكفير الأنظمة الحاكمة والحكم بردتها وتطرق الأمر إلى المجتمعات، وكل ذلك لكى يستباح دماؤها، ولكي يكون قاعدة تؤمن له ولآرائه، وكل ذلك قد جر على الأمة ويلات من الظلم والاضطهاد، وأصبح ذلك هو اكسير الحياة للمستبدين في عالمنا.
كم خنجرا مسموما في قلب الإسلاميين بسبب آراء وأفكار لأفراد لم يتسن لهم تحصيل العلم الشرعي، وأصبح الاجتهاد ممن لا يصح منه اجتهاد،
فساد المجتمعات وانتشار الفسق فيها ليس تصريحا بتكفيرها أو ردتها بل حتى ظلم الحكام واستبدادهم لا يعنى كفرهم، إننا نعاني من الظلم فلا نتحول إليه بفقه لايدرك مصالح الناس ومعايشهم، وندخل معه إلى مجاهل لا نعرف لها عاقبة.
إن البعض منهم يتصور أنه يجب على الجميع الأخذ بالعزائم، وهذا غير صحيح فى حق الأمة، القضية تحتاج إلى البصير الذي يهدي إلى النور في ظل تلك الظلمات، هذا ما أردت أن أشير إليه إلى كل المتكلمين في الواقع الحالي.
( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ).