اختلفت الآراء والمواقف حول شرح أسباب وأبعاد الاحتجاجات الشعبيّة في إيران، ولكنّها اتّفقت وأجمعت على أنّ موّلدها واحد؛ السلطة الشموليّة المتستّرة تحت عباءة “الدين” و”المذهب”، والحاكمة بالحديد والنار.
الغنى الثقافيّ للشعوب الإيرانيّة
تمتلك إيران – كشعوب إيرانيّة وليس كشعب فارسيّ فقط – إمكانات ماديّة وثقافية عريقة وكبيرة، غائرة في التاريخ، كإحدى الشعوب الرئيسة التي ساهمت بجدارة في بناء حضارة الشرق، وتركت بصمتها عليها في العديد من المحطّات. فالشعوب الإيرانيّة لديها من التقاليد الديمقراطيّة والإرث الحضاريّ، ما يؤهّلها لأن تجدّد نمط مجتمعاتها وأسلوب عيشها وباستمرار، ولم تقف – تلك الشعوب – عاجزة في مراحل تطوّرها التاريخيّ عند أيّ من المنغّصات التي من شأنها تقييد حركتها، بل تجاوزتها بفعل تراكمات الوعي والثقافة لديها، حتّى دحرت أكبر الإمبراطوريّات استناداً إلى هذه القوّة المعنويّة أوّلاً ومن ثمّ الماديّة.
عمليّة “أجاكس” والصراع على إيران
في العصر الحديث، ورغم وقوع إيران تحت الهيمنة الاقتصاديّة والاستخباراتيّة الإنكليزيّة ومن ثمّ الأمريكيّة بشكل مباشر، إلا أنّ هذا لم يمنع شعبها من قول كلمته أمام ذاك التوغّل الموحش الذي فتح له شاه إيران المخلوع “محمّد رضا بهلوي” أبوابها على مصراعيها أمام الشركات الغربيّة في السيطرة على موارد إيران النفطيّة والطبيعيّة. فقرار رئيس الوزراء “مصدّق” بتأميم النفط الإيرانيّ عام 1951، وتحدّيه القوّة الأمريكيّة، شكّل منعطفاً حاسماً نحو إعادة الهيبة للشعب الإيرانيّ ليدير موارده “وطنيّاً”، رغم تكالب الاستخبارات الأمريكيّة والإنكليزيّة عليه والتي أوصلته إلى حبل المشنقة، في أكبر عمليّة استخباراتية نفّذت في المنطقة، سمّي حينها بعمليّة “أجاكس”.
جمهوريّة مهاباد امتداد لوعي تاريخيّ لشعوب إيران
قبلها، ثورة الشعب الكرديّ في روجهلات (شرق) كردستان، الواقعة تحت الاحتلال الفارسيّ، عام 1946 بقيادة “قاضي محمّد” وإعلان جمهوريّة مهاباد – التي تمرّ ذكراها السنويّة في 22 من هذا الشهر – هي امتداد طبيعيّ وتاريخيّ لوعي نشأ وتطوّر بين الشعوب المتلاحقة ثقافيّاً وتاريخيّاً، وكذلك ثورة شعب أذربيجان، هذا إن قرأنا الثورتين بتجرّد من الدعم الذي تلقّته من الاتّحاد السوفياتيّ آنذاك.
“نظام الملالي” واستنفاد دور “الشاه”
وصول ثلّة الملالي إلى سدّة الحكم في إيران عام 1979، إنّما جاء على قطار غربيّ، بعد أن استنفد شاه إيران أسباب بقاء سلطته واستمرارها اقتصاديّاً وسياسيّاً وحتّى عسكريّاً، هذا التغيير في إيران كان رغبة غربيّة قبل أن تكون إيرانيّة، وأكثر ممّا كانت تحرّكه دوافع وسعي “الخمينيّ” الذي احتضنه الغرب ورعاه طيلة فترة تحضيره لما يسمّى “الثورة الإسلاميّة في إيران”.
أوهم الغرب الشعوب الإيرانيّة من خلال الضخّ الإعلاميّ، بفكرة المخلّص “الخمينيّ” ونهجه الإيديولوجيّ الدينيّ، كبديل لتحكّم المنظومة الأمنيّة التي رسخّها شاه إيران عبر جهاز “السافاك” في التضييق على الحرّيّات المجتمعيّة من جانب، ومن جانب آخر، حاول إنقاذ “حليفه” الشاه من السقوط. فأثناء وصول “الخمينيّ” ورفاقه إلى مطار طهران قادمين من فرنسا عبر بغداد، استقبلتهم جموع قدّرت حينها بـ(5) ملايين شخص نزلوا للشوارع، في حين كان التلفزيون الإيرانيّ الرسميّ في ذات التوقيت يبثّ صوراً لاستقبال الجماهير لشاه إيران في المطار، ما أربك البعض، إلى أن انجلت الحقيقة، حيث كانت تلك المقاطع تُبثُّ عبر الأقمار الصناعيّة الأمريكيّة فوق إيران، بعد أن احتجز “الخمينيّ” طاقم السفارة الأمريكيّة في طهران.
“تصدير الثورة” إستراتيجيّة نظام الملالي
بشّر نظام الملالي في بداية عهده، بالمزيد من الديمقراطيّة والحرّيّات العامّة، لكنّه وبعد أن رسّخ من بنيته، انقلب على كافة شركائه في “الثورة” وخاصّة الكرد، وتعامل بقبضة حديديّة مع كلّ من عارض نظامه و”ولاية الفقيه”، واتّخذ من مبدأ “تصدير ثورته” المزعومة، إستراتيجيّة دائمة له، تحرّكه نوازع التمدّد في المنطقة تحت شعارات ساقها لإيهام الشعوب، بمرجعيّته “الشيعيّة” الحقّة دون غيرها، وحصر في نفسه قيادة الثورة، وبرّر مسوّغات انتشارها، دون رادع أخلاقيّ أو حقوقيّ، ليدّعي أنّ نظامه الأجدر بقيادة “الإسلام”، حسب زعمه في أدبيّاته السياسيّة وثقافته التي بشّر بها عبر رجال الدين، وأضفى عليها هالة من “القدسيّة”، كأحد الأساليب لنشر إيديولوجيّته وفكره الدينيّ والمذهبيّ.
تصفية “رفاق ثورته”
الانقلاب في توجّهات نظام الملاليّ، لاقى رفضاً دوليّاً كبيراً وخاصّة من قبل الدول الغربيّة، التي لم تتأخّر في إشعال فتيل الحرب العراقيّة – الإيرانيّة التي دامت ثمانية أعوام، وهدرت من إمكانات البلدين الكثير، وتسبّبت بمقتل أكثر من مليون قتيل ومن الطرفين. وحقيقة جاءت تلك الحرب عند رغبة نظام الملالي، ليوطّد نظامه القمعيّ ويُسكِت كافة الأصوات المعارِضة له في الداخل، أكثر ممّا كانت تحدوه رغبة في كسب صراع مع عدوٍّ خارجيّ، فكلّ نظام قمعيّ وديكتاتوريّ يخلق حروباً خارجيّة وهميّة، ليقضي على الحرب الداخليّة التي تقضّ مداميك نظامه، فخلال الحرب قام بتصفية كافة رموز المعارضة العلمانيّة في إيران، حتّى رئيس وزرائه الذي عُيّنَ بداية استيلائه على السلطة “شهبور بختيار” لم يسلم من التصفية، وكذلك زعيم الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ – إيران الدكتور “عبد الرّحمن قاسملو” ومن بعده الدكتور “صادق شرف كندي” وزملاؤه في ألمانيا.
تشكيل أحزاب وحركات دينيّة – شيعيّة
عمد النظام الإيرانيّ، بعد الحرب العراقيّة – الإيرانيّة، إلى انتهاج سياسة جديدة، محورها تشكيل أحزاب وحركات سياسيّة ذات توجّه دينيّ مذهبيّ تُدين له، وتأتمر بأوامر “الوليّ الفقيه”، وتحقّق له رغباته في التمدّد والانتشار في المنطقة، وتعتبر أداته المُثلى في بلدانها. “حزب الله” اللبنانيّ، و”حزب الدعوة الإسلاميّة” في العراق، و”الحركة الحوثيّة” في اليمن، والعديد من الحركات الدينيّة – الشيعيّة في أفغانستان وباكستان، لعبت أدواراً مهمّة في نشر الفكر الشيعيّ، ودافعت وحافظت على مصالح النظام الإيرانيّ في بلدانها، على رغم معارضة الغالبيّة العظمى من شعوب تلك البلدان لتوجّهاتها.
التركيز على “التصنيع العسكريّ” وتعزيز ترسانته
التورّط الإيرانيّ في مشاكل المنطقة وأزماتها، والبحث عن نفوذ إقليميّ لها “كدولة ونظام دينيّ قرووسطيّ”، حدا بها لأن تكون هي بالذّات جزءاً من تلك المشاكل، وليس حلّاً لها. فالحروب “العبثيّة” التي افتعلتها في عدد من الدول، وتدخّلاتها الفظّة في أمورها الداخليّة، قابله توجّه محموم نحو تعزيز ترسانتها العسكريّة، وبناء منظومة عسكريّة متطوّرة والتركيز على توسيع آفاق “التصنيع العسكريّ”، قياساً مع دول الجوار والمنطقة، وشعورها بعظمة “القوّة” على غرار كوريّا الشّماليّة والاتّحاد السوفياتيّ سابقاً، وزيادة نسب الإنفاق العسكريّ ودعم الحركات السياسيّة – الدينيّة التابعة لها، كلّ هذه الأمور مجتمعة زادت من العبء على الاقتصاد الإيرانيّ، هذا إلى جانب ظهور طبقة (سياسيّة – عسكريّة – دينيّة) فاسدة، سرعان ما شعرت بالثراء الفاحش، وهي تعتاش على قوت الناس الفقراء الذين يزدادون فقراً كلّ يوم، وفي مقدّمة هذه الشخصيّات وليّ الفقيه “علي خامنئي” الذي يملك أرصدة بعشرات مليارات الدولارات في البنوك الأجنبيّة، وكذلك القادة العسكريّون ورجال الدين من الحلقة الضيّقة والمشاركة في صناعة القرار، حسب بعض المصادر الغربيّة.
الشروخ المجتمعيّة في إيران وتداعياتها
الشروخ المجتمعيّة التي خلّفها نظام الملاليّ في إيران، وفرضه ثقافة أحاديّة متمثّلة بالفكر الدينيّ الشيعيّ، خلق معه ردود فعل قويّة في العمق، ولكنّها ظلّت خافتة المظهر والشكل، وهي بدأت منذ أن شرع النظام في تصفية الأحزاب والحركات السياسيّة، وقتل الحياة السياسيّة في البلاد، تحت شعار الحكم “بالشريعة”. فشرّع لنفسه ارتكاب كافة الموبقات والمظالم ضدّ شعبه بذريعة “صون الدولة والثورة الإسلاميّة”، في تماهٍ مع الأنظمة الدكتاتوريّة في المنطقة والعالم.
الدعم الذي تلقّاه النظام الإيرانيّ من الدول الغربيّة إبّان صعوده نحو قمّة الدكتاتوريّة والعنجهيّة الدينيّة، شكّل حلقة أخرى من فصول الازدواجيّة الغربيّة في التعامل مع الأنظمة الفاسدة في المنطقة. فضيحة “إيران – غيت” المشهورة رغم استمرار أزمة رهائن السفارة الأمريكيّة آنذاك، إنّما دلّت بشكل واضح على تفضيل الدول الغربيّة لمصالحها على حرّيّة الشعوب وحقوقها. وما لم يُكشف عنه من فضائح مماثلة أعظم وأدهى، وربّما يُكشَف عنها في أوقات لاحقة.
تقوية عضُد النظام الإيرانيّ، مكّنه من التمادي في لعب أدوار تخريبيّة في المنطقة، وتشكيل تحالفات مذهبيّة، عقّدت من الأزمات الموجودة في المنطقة أصلاً، وأوصلتها إلى حدّ الانفجار، لتستغلّها في “نشر الفوضى” وتهدّد كيانات دول وشعوب، ولتخلق معه صراعاً مذهبيّاً؛ سنّياً – شيعيّاً، أجّجته من الطرف الآخر، دول أخرى تقوقعت حول مذهبها “السنّي”، ولتغدو وكأنّها “ثقافة” يسعى كلّ طرف فيها إلى إنهاء الآخر، وعن طريق القوّة العسكريّة والاقتصاديّة وزرع خلايا نائمة وتجسّسيّة، للإجهاز على ثقافة المنطقة في التسامح والعيش المشترك.
الدور الإقليميّ للنظام الإيرانيّ
الدور الإيرانيّ في سوريّا ومنذ بداية الأزمة، لم يكن أقلّ سوءاً من التركيّ، لجهة الاستثمار السياسيّ والعسكريّ، وحتّى وصل بها إلى تغيير عقائد الناس عبر فرض “التشيّع” وشراء الذمم والولاءات الدينيّة والمذهبيّة، التي باتت كابوساً على سوريّا الحاضر والمستقبل، حتّى وصل بها الأمر – الأحزاب والميليشيات المذهبيّة – إلى أن تجد نفسها “كيانات” خارج سلطة وسيادة الدولة السّوريّة، وليس النظام فقط.
مناسبة هذه المقدّمة، تقودني إلى محاولة فهم دلالات ما يحدث في إيران من احتجاجات على نظامها، كذلك تأثير التصدّعات الداخليّة في إيران على الحراك السياسيّ والعسكريّ في سوريّا، وبالتالي إمكانيّة أن تنكفئ إيران على نفسها لتولي أهميّة لترميم جبهتها الداخليّة، ما ينقلها للدخول في مرحلة جديدة سمتها الأساسيّة؛ القطع مع مرحلة ما كانت تسمّى بـ”تصدير الثورة”، والانصراف للبناء الداخليّ.
توسّع رقعة التظاهرات ومشاركة الجيل الشّاب
كثيرون هلّلوا ببداية “الربيع الإيرانيّ” الذي طال انتظاره، وخاصّة دول الخليج، وبعض الدول الغربيّة وعلى رأسها أمريكا، معتبرين أنّ النظام الإيرانيّ لن يصمد أمام حجم التظاهرات المناوئة له والتي انتشرت في عدّة مدن كبيرة، حتّى وصلت إلى كردستان وبلوشستان والأهواز أيضاً.
توسّع رقعة التظاهر والشعارات التي رفعها المتظاهرون – وأغلب المشاركين من الجيل الشّاب الذي لم يعاصر أحداث ما تسمّى “الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة” – اختصرت كلّ معاني الرفض والمعارضة للنظام، لإيديولوجيّته وسياساته “المغامراتيّة” الطائشة التي لم تجلب لبلادهم غير الفقر والحرمان، وصولاً إلى المطالبة بالانفتاح ونشر الحرّيّات الثقافيّة والسياسيّة وإلغاء الأحكام الجائرة مثل الإعدام، وإعطاء دور أكبر للمرأة ولمشاركتها في الحياة وتحرّرها من القيود التي كبّلها بها نظام الملالي، وصولاً إلى رفض ولاية “الوليّ الفقيه”.
سلوك نمط العراك “النيرونيّ”
يملك النظام الإيرانيّ خبرة كبيرة في وأد الانتفاضات وكلّ مظاهر العداء له، فلقد تمكّن من القضاء على الاحتجاجات عام 2009 والتي قادتها شخصيّات كانت محسوبة على النظام آنذاك، وخالفتها فيما بعد، فاعتقلت حينها عدداً كبيراً منهم آنذاك، فيما أعدمت قسماً من الناشطين ممّن نظّموا تلك التظاهرات.
عمد النظام الإيرانيّ إلى سلوك أسلوب النظام السّوريّ في بداية الثورة في سوريّا، حيث أجبر مناصريه والموالين لنظامه وحتّى الموظّفين الحكوميين، للخروج بمسيرات تأييد له، ليحدث التصادم بين الطرفين، ولتتأمّل قوّاته الأمنيّة من الباسيج والباسدار المَشهَد، على النمط النيرونيّ في روما القديمة في عراك الأشخاص ومن ينتصر في النهاية يسلّمه للوحوش المفترسة.
أنظمةٌ لا تسقط بتظاهراتٍ “شعبويّة” غير منظّمةٍ
ظهر بشكل جليّ تماماً، ومن خلال تجارب الثورات في منطقة الشرق الأوسط، أنّ الأنظمة والحكومات الدكتاتوريّة لا تسقط بقوّة الشعوب ونزولها إلى الميدان فقط، بل إن لم تآزِرها قوّة منظّمة ما، فلا يمكن حدوث أيّ تغيير من شأنه أن يزعزع كيانات هذه الأنظمة التي تحكم بقوّة الحديد والنار، والتي لا تأبه بأيّ ردود فعل على استخدامها العنف المفرِط ضدّ شعوبها. والنظام الإيرانيّ بارع في هذا المجال ويملك قوّة بطش قمعيّة من شأنها القضاء على هكذا تظاهرات غير منظّمة ولا تملك قيادة متبلورة لها أفق سياسيّ وبرنامج تسير عليه.
لقد قتل النظام الإيرانيّ الحياة السياسيّة في البلاد مثله مثل بقيّة الدول في المنطقة، فلا توجد مؤسّسات مجتمع مدنيّ ولا جمعيّات حقوقية ولا مراكز أبحاث ودراسات مستقلّة تراقب سلوكه، بل ربط المجتمع الإيرانيّ ومن كافة النواحي بعجلته الدينيّة والمذهبيّة، ولم يفسح المجال أمام ظهور معارضة صحيّة لنظامه، وبرّر لنفسه محاربة كلّ الحركات المعارضة والشخصيّات السياسيّة وحتّى الثقافيّة غير الموالية له، بذريعة “الكفر والخيانة” وما إلى ذلك من التهم الجاهزة والمعلّبة التي يسوقها في توجيه التهم لمعارضيه، حتّى أصبحت إيران من أكثر الدول في ارتفاع نسبة إعدام المعارضين السياسيين، حسب منظّمات حقوقيّة دوليّة.
نظام “الملالي” ينظر إلى الشعب “كقطيع”..!!
حوّل نظام الملالي إيران إلى سجن كبير، فيما ينظر إلى المجتمع كقطيع، ما عليه إلا أن يسير وراءه، ويستخدمه كخزّان بشريّ في حروبه الطائشة، إلا أن استنزف طاقات الشعب الإيرانيّ ووظّفها في خدمة مصالحه الخاصّة في التوسّع في المنطقة مترافقاً مع حروب عبثيّة هنا وهناك، ما أثقل كاهل المواطن الإيرانيّ.
لقد أدرك الشعب الإيرانيّ حقيقة النظام، وخرج ليعبّر عن مطالبته المشروعة في الاستفادة من ثروات بلاده، وعدم تبديدها في دعم حركات مذهبيّة موالية للنظام الثيوقراطيّ، فالشعارات التي رفعها المتظاهرون كانت ترجمة لمعاناته على يد النظام، ومطالبته بمزيد من الحرّيّات ورفض “ولاية الفقيه”، وجميعها تشير بوضوح إلى حجم الهوّة الكبيرة التي تفصل بين النظام والشعب.
لم تصل الاحتجاجات إلى مستوى “الثورة”
راهنت العديد من القوى الإقليميّة والدوليّة على استمراريّة التظاهرات، وانبرت عدّة وسائل إعلاميّة على وصف تلك التظاهرات “بالثورة الإيرانيّة ضدّ نظام الملالي”، والنظر إليها من منظور “الانتقام السنّيّ” من نظام “شيعيّ”، ولم تُظهِر الجانب الأكثر أهميّة في تلك الاحتجاجات التي لم تتطوّر وتصل إلى مستوى “الثورة”، وهو معاناة شعب ذاق الأمرّين على يد نظام مستبدّ وطاغٍ.
أمريكا واستغلالها للتظاهرات
ادّعت أمريكا أنها ستدعم التظاهرات في إيران، حتّى حدا بالرئيس ترامب إلى القول بأنّه سيوجّه قمراً صناعيّاً على إيران لاستمرار خدمة الإنترنت، بعد أن قطعته السلطات الإيرانيّة لمنع نقل صور ومقاطع فيديو التظاهرات وكيفيّة قمع القوى الأمنيّة للمتظاهرين عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ. لكن تبيّن أنّ أمريكا لم تكن جادّة في موقفها هذا، بل وظّفت التظاهرات كورقة ضغط على النظام الإيرانيّ للحصول على تنازلات في الاتّفاق النوويّ، وكذلك استخدامها لتقويض دورها في سوريّا.
التدخّل الإيرانيّ في سوريّا، أحد الأسباب الرئيسة في اندلاع التظاهرات، فوصول جثامين قتلى النظام الإيرانيّ من سوريّا إلى إيران، شكّل امتعاضاً شعبيّاً عامّاً، وصل لدرجة الاحتقان ثمّ الانفجار. بالتوازي مع ذلك، الأموال التي تُصرف على الميليشيّات الشيعيّة الموالية له في سوريّا مثل حزب الله وكذلك الميليشيّات التي استقدمها من أفغانستان وباكستان، وحتّى على الحوثيين في اليمن، زاد من حدّة التناقضات الاجتماعيّة في إيران، ولم يعد الشعب الإيرانيّ قادراً على دفع فواتير حروب النظام المتهوّرة في المنطقة، تلك الحروب التي لا ناقة له فيها ولا جمل.
روجهلات “شرق” كردستان مهيّأة لقيادة الثورة
مرّة أخرى المنطقة المهيّأة لاندلاع الثورة وقيادتها في إيران هي روجهلات (شرق) كردستان، فهي تملك من القوّة التنظيميّة والعسكريّة، والفكر الثوريّ، ما يؤهّلها لتكون مركز استقطاب لكافة الشعوب الإيرانيّة. وباعتباره – أي الشعب الكرديّ – راكمَ خبرات وتجارب كبيرة في هذا الصدد، كما أنّ العديد من القوى والأطراف الإقليميّة والدوليّة تراهن على حراك الشعب الكرديّ، مثلما كان الوضع في سوريّا إبّان اندلاع الثورة، فرغم القبضة الحديديّة النظام الإيرانيّ والمتحكّمة بالشعوب الإيرانيّة كافة، إلا أنّه لم يتمكّن من فرض سطوته على الشعب الكرديّ، ولا أدلّ على ذلك الإعدامات التي ينفّذها ضدّ الثوار والمثقّفين الكرد كلّ يوم في السّاحات العامّة، ولكنه رغم ذلك لم يطفئ جذوة الثورة في روجهلات.
لقد استطاع النظام الإيرانيّ القضاء على الاحتجاجات من خلال القتل العام واستخدام الرصاص الحيّ ضدّ المتظاهرين، رغم أنّها – أي الاحتجاجات – لم تتحوّل إلى اشتباكات مسلّحة، فقط اقتصرت على اطلاق الشعارات المعادية للنظام، والمطالبة بعودة أبنائهم إلى بلادهم، وعدم تبديد ثروات وطنهم، ورفض نظام ولاية الفقيه، وما إلى ذلك من المطالب.
غياب قيادة “منظّم” للاحتجاجات
إنّ أحد أسباب عدم تطوّر الاحتجاجات إلى مستوى “ثورة” حقيقيّة، تكمن في غياب قيادة منظّمة لها، وبقائها في إطار التظاهرات “الشعبويّة” التي لا تهزّ أركان النظام، وتالياً تمكّن النظام القضاء عليها بِيُسرٍ، خاصّة بعد أن زجّ بقوّات النخبة لديه “الحرس الثوريّ” المدرّب على استخدام كافة أشكال العنف الوحشيّ ضدّ المتظاهرين، فقتل العشرات واعتقل الآلاف بلا رحمة، ودون أن يرفّ له جفن، في تكرار أسوأ من سيناريو تظاهرات عام 2009.
تأثير روج آفا وشمال سوريّا على إيران
إنّ اندلاع ثورة شاملة في إيران، مرهون بالتطوّرات في المنطقة وخاصّة في كردستان، التي تبوّأت قيادة التغييرات في الشرق الأوسط، وبجدارة، من خلال تبنّيها لمشروع حضاريّ وإنسانيّ، يتجاوز في الرؤية والإستراتيجيّة المفهوم التقليديّ “للثورة” و”الدولة القوميّة الواحدة” أو تلك المبنيّة على أسس “دينيّة” أو “مذهبيّة”. والتطوّرات في روج آفا وشمال سوريّا، ستجد مفاعيلها في المنطقة وفي إيران خصوصاً، بعد أن استحال العيش ضمن أطر الدول القومويّة القمعيّة، التي أصبحت أسوأ مثال على أنظمة الدول في العالم في الإدارة، وغدت الفيدراليّة مطلباً شعبيّاً والبديل المطروح لكافة الأنماط والنماذج الدكتاتوريّة.